حين يطوي الله الماضي

You are currently viewing حين يطوي الله الماضي
ليست التوبة قاعة محاكمة ولا استجوابًا صارمًا، بل لقاءٌ يُستعاد فيه الوجه قبل الحساب. هي إعلان صغير بأنّ القلب ما زال قابلًا لأن يُمسّ، ولذلك تفرح السماء (لوقا 15: 10). الفرح ليس زينة لغوية؛ إنّه اعتراف بأنّ عودة الإنسان إلى الحقّ أثمن من أيِّ سجلّ يَحفظ سقطاته.
الله ينتظر. ينتظر دون ملل، يلمحنا من بعيد، لا يكتفي بأن يفتح الباب بل يخرج إلينا، يسبق خطانا بخطواته، يضمّنا ويغفر: ” وفيما هو لم يزل بعيدًا رآه أبوه..” (لوقا 15: 20). هذه الحركة لا تغيّر فقط موقفنا منه، بل تغيّر صورتنا أمام أنفسنا: نحن لسنا حاصل جمع أخطائنا، بل أبناء يعودون إلى بيتٍ يعرف أسماءهم من جديد.
حين يُقال إنّ الله “ينسى” الماضي، فالمقصود ليس نقصًا في علمه، بل قرار محبّةٍ عهديّ: أن لا يستدعي ما كان شاهدًا ضدّنا متى رجعنا. إنّه محوٌ قانونيّ للملفّ لا محوٌ قاتل للذاكرة «يعود يرحمنا… وتُطرح في أعماق البحر جميع خطاياهم» (ميخا 7: 19). يظلّ الماضي قابلاً للتذكّر كدرسٍ يعلّم، لا كقيدٍ يحكم.
يسمّي البعض هذا “ضعفًا”، لأنّ منطق الرحمة لا يجيد لغة الموازين الباردة. لكنّ هذا الضعف هو قوّة من لا يخاف أن يفتح ذراعيه قبل أن يضمن النتيجة. القوة الحقيقية ليست في صرامة الحساب، بل في حرّيّة من يقدر أن يصفح دون أن ينكر الحقّ.
الاعتراف يكسر عزلة الذنب: «إنِ اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل إثم» (1 يو 1: 9). أن تسمّي الأمور بأسمائها من دون تبرير هو أول فعل شفاء: تُعيد الحقيقة ترتيب الداخل، ويصير الخجل قابلًا للتحوّل إلى تواضع. الغفران هنا ليس جائزة على إنجاز، بل عطية تُستقبل؛ ومن يستقبلها يتعلّم أن يعيش بلا أقنعة.
مع ذلك، الغفران لا يختصر الطريق. قد تبقى تبعات تحتاج ترميمًا وتعويضًا، وهذا لا يناقض الرحمة بل يُثبتها: فالعدالة التي تعمل للشفاء لا تتعارض مع الصفح، بل تسير معه. أن يغفر الله لك يعني أن تُرسِل جذورًا جديدة، وأن تتعهّد، قدر استطاعتك، بإصلاح ما انكسر.
ذاكرة المؤمن بعد الغفران لا تُلغى، بل تُعاد تربيتها. نتذكّر كي نتعلّم، لا كي نجلد أنفسنا؛ نُمسك بالماضي من ناحية الدرس لا من ناحية الهويّة «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة» (2 كو 5: 17). الرجاء يصبح أسلوب عيش: لا إنكارًا للواقع، بل ثقة بأنّ البداية ممكنة دائمًا.
ومن ذاق هذا الحضن يتبدّل معيار علاقاته. لا يعود الآخر ملفًّا يُفتح عند الحاجة، بل شخصًا يمكن أن يُمنَح فرصة ثانية. الرحمة المعدية تُخفّف قبضة الانتقام، وتسمح للعدالة أن تبني بدل أن تكتفي بهدم ما تهدّم.
وهكذا، كلّ مرّة نقترب فيها من الاعتراف نقيم عيدًا صغيرًا: ليس لأنّ الشرّ صار هيّنًا، بل لأنّ الخير أقدر على الكلمة الأخيرة. هناك، في المسافة بين بابٍ فُتح وذراعين امتدّتا، نكتشف أنّ الله لا يحتفظ بماضينا سيفًا فوق رقابنا، بل يطويه ليكتب منه بدايةً تُشبهه.
المطران سعد سيروب حنا-

اترك تعليقاً