الخوري نسيم قسطون:
في لحظة الصعود، لم يترك الربّ تلاميذه بلا معنى أو قوّة، بل حوَّلَ غيابه الجسديّ إلى دافعٍ للانطلاق. “وتكونون لي شهودًا” ليست مجرّد وصيّة، بل هي تحوّل جذريّ في طبيعة العلاقة معه. فالشهادة هنا لا تعتمد على الرؤية الماديّة، بل على الثقة بحضورٍ غير منظور، يُختبر في الصلاة، وفي كسر الخبز، وفي لقاء الآخر. لقد انتقل التلاميذ من حالة التبعية المباشرة للمعلّم إلى مرحلة النضج الروحيّ، حيث يصبحون هم أنفسهم علامةً عليه.
هذا التحوّل لم يكن سهلاً. فكما يعاني الإنسان من ألم الفراق، عاش الرسل حيرةَ الفقد، لكنّها حيرةٌ ضروريّة. فلو بقي الربّ بينهم جسديًّا، لظلّوا تابعين غير فاعلين، يختبئون خلفه في الأزمات. أمّا الآن، فقد صاروا شركاءَ في البشارة، يحملون رسالته لا كأمرٍ خارجيّ، بل كحقيقةٍ تنبض فيهم بالرّوح القدس. هكذا يصبح الغيابُ الجسديّ شرطًا لظهور حضورٍ أعمق: حضور الإيمان الذي يحرّك الجبال.
لكنّ هذه الدعوة تحمل تحدّيًا كبيرًا: كيف نشهد لمسيحٍ لا نراه؟ الجواب يكمن في “الواقعيّة الروحيّة”. فالمسيحيّ لا يعيش في عالمٍ من الأحلام، بل في حقيقةٍ تُختبر يوميًّا. الشهادة تبدأ من البيت، من صدق الكلمة، من العدل في العمل، من الصبر في المحن. إنّها ليست خطبًا مُلتهبة، بل حياةٌ تتوافق مع الإنجيل. حين قال الربّ: “من آمن واعتمد يخلص”، لم يُشِر إلى طقسٍ شكليّ، بل إلى تحوّلٍ كليّ في الوجود. فالمعموديّة تُلبسنا المسيح، لكنّها تفرض علينا أن “نخلعَ” كلّ ما لا يشبهه.
eاليوم، لم تعد “الآيات” تقتصر على إخراج الشياطين أو لمس الأفاعي، بل صارت مواجهةً لأشكالٍ جديدة من الشرّ: العزلة، الكراهية، الاستهلاك، التلاعب بالضمائر. أعظم المعجزات هي أن يبقى الإنسانُ إنسانيًّا في عالمٍ يُجيد تجريد الناس من إنسانيتهم. أن تُصلحَ خلافًا، أن تمنحَ وقتًا لمن يشعر بالوحدة، أن ترفضَ الكذبَ في زمن الازدواجيّة، هذه هي “الألسنة الجديدة” التي تكلّمنا بها الرسالة.
لكنّ كلّ هذا يحتاج إلى جرأة، وهنا يأتي دور الوعد الإلهيّ: “والربّ يعمل معهم”. فالشهادة ليست حملًا منفردًا، بل هي ثمرةُ شركةٍ مع الله. الصلاة ليست هروبًا من الواقع، بل هي لقاءٌ يملؤنا قوّةً لكي ننزلَ إلى الواقع. حين كان التلاميذ يصلّون “بنفسٍ واحدة”، لم يكونوا ينتظرون معجزةً سحريّة، بل كانوا يستعدّون ليكونوا هم أنفسهم المعجزةَ في العالم.
في عيد الصعود، نحن مدعوّون إلى “صعودٍ” آخر: أن نرفعَ أبصارنا عن الأرض لنرى السماءَ مفتوحةً فوقنا، ثمّ ننزلَ إلى الأرض حاملين نورها. الغيمة التي حجبت الربّ عن العيون لم تحجبه عن القلوب، بل جعلتْ إدراكَنا له أعمق. لقد صعدَ إلى السماء ليكونَ أقربَ إلينا، حاضرًا في كلّ كلمة حبّ، في كلّ خطوة مصالحة، في كلّ يأس يتحوّل إلى رجاء.
فلا نبقَ إذن نحدّق إلى السماء، بل لننطلقْ إلى العالم، حاملين فيها الفرحَ الذي لا يُفسِّره إلّا لقاءٌ معه. لأنّه، في النهاية، الشهادةُ الحقيقيّة هي أن نحيا كما لو كنّا نراه.
