عظة في عيد تجلّي الرب للقدّيس كيرلس الإسكندري

You are currently viewing عظة في عيد تجلّي الرب للقدّيس كيرلس الإسكندري
إن الذين يعرفون جيدًا كيف يجاهدون من أجل جائزة في المباريات الرياضية، يفرحون بتصفيق الجمهور، ويتحمّسون بشدة نحو الفوز، بدافع الأمل في نيل الجوائز. وكذلك أيضًا، الذين لديهم رغبة شديدة في نيل النِعَم الإلهية يعطشون لكي يصيروا شركاء في الرجاء الذي أُعدّ للقدّيسين، ويقبلون بسرور خوض الجهاد لأجل المسيح.
كما أنّهم لا ينالون الحياة المُشرّفة والمجيدة بالكسل، الذي لا أجر فيه، ولا بمحبة الجبن المُهين، بل يسلكون بشجاعة ضدّ كلّ تجربة، ويحتقرون الاضطهادات ويعدّونها تافهة لا تستحق الذكر. وهكذا، يعتبرون الألم من اجله غنىً، لأنهم يتذكّرون الطوباوي بولس الذي كتب أنّ آلام الحياة الحاضرة لا تُقارن بالمجد العتيد أن يُعلَن لنا.
لاحظ، إذًا، التدبير العجيب الذي يستخدمه الآن ربّنا يسوع المسيح لخير وبنيان الرسل القدّيسين. فقد قال لهم: «من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه، وليحمل صليبه ويتبعني. لأنّ من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها» (متى 16: 24-25).
إنّ هذه الوصية خلاصية، وتليق بالقدّيسين. وهي سبب للمجد الذي تحدّثنا عنه آنفًا، وتُولّد في الإنسان الفرح بما سيناله في النهاية. لأنّ من يختار الآلام من أجل المسيح لا يبقى بلا مكافأة، بل ينال شركة الحياة والمجد الأبدي ككنز دائم لا يُنتزع. لكن، إذ لم يكن التلاميذ قد نالوا بعد القوّة من العلاء، كان طبيعيًا أن يسقطوا أحيانًا في ضعف بشري، فيفكّروا في أنفسهم قائلين: كيف يمكن للإنسان أن ينكر نفسه؟ وكيف، إن فقد حياته، يجدها من جديد؟ وأيّ أجر يوازي هذه المعاناة؟ وأيّ عطايا سيصير شريكًا فيها؟
فلكي يبعدهم عن مثل هذه الأفكار وهذا المنطق، ويصقلهم ليكونوا شجعانًا مثلما يُشكَّل المعدن بالصقل، ويزرع فيهم شوقًا لذلك المجد العجيب، قال لهم: «الحق أقول لكم، إنّ بعضًا من الواقفين ههنا لن يذوقوا الموت قبل أن يروا ملكوت الله» (متى 16: 28).
فهل المقصود أنّ حياتهم ستمتدّ طويلًا إلى أن يبلغوا نهاية الدهر، حيث ينزل فيها الرب من السماء ويقيم القدّيسين في الملكوت المُعدّ لهم؟ لا شكّ أنه قادر أن يفعل ذلك. لأنه يستطيع كلّ شيء، ولا يستحيل اي أمر أمام قوّته المطلقة. لكنه حين يقول «الملكوت»، إنما يشير إلى معاينة مجده، ذلك المجد الذي سيُظهر فيه نفسه في تلك الساعة، حين يضيء على الذين في الأرض. إذ سيأتي في مجد الله الآب، لا في الضعف الذي هو خاصتنا.
فكيف أراد أن يجعل الذين نالوا الوعد شهودًا لهذا العجب؟ صعد إلى الجبل وأخذ معه ثلاثة منهم، كان قد اختارهم. ثم تحوّل إلى نور غير عادي، يليق بالله، حتى إنّ ثيابه إذ استنارت، بدت ناصعة اللمعان كأنّها نور محض.
ثم ظهر موسى وإيليا، ووقفا حول يسوع، وكانا يتحدّثان معه عن خروجه الذي كان سيُتمّمه في أورشليم، أي عن سرّ التجسّد وعن آلامه الخلاصية، التي تحقّقت فوق الصليب المقدس.
فبما أنّ الناموس، الذي أُعطي بيد موسى، وكلام الأنبياء القدّيسين قد أعلنوا مسبقا سر المسيح – الناموس أظهره برموز وظلال، كما تُرسم الأشياء على لوح، والأنبياء تنبّأوا بطرق شتّى بأنّه سيتجسد في ملء الزمان على صورتنا، وأنّه سيرتضي الموت على الصليب من أجل خلاص البشرية.
لذلك، فإن ظهور موسى وإيليا إلى جانبه، وحديثهما معه، كانا تدبيرًا إلهيًا، يُظهر بوضوح أنّ ربّنا يسوع المسيح كان محاطًا بخدّام رسميّين للناموس والأنبياء. فقد قدّماه كسيّد على الناموس والأنبياء قبل أن يُعلَن، بما نطق به كلٌّ منهما بتوافق.
فكلام الأنبياء لا يتناقض مع ما أُعلِن في الناموس. وأظنّ أنّ هذا هو المقصود حين خاطب موسى إيليا، العظيم بين الأنبياء.
لكن ثمّة أمر آخر ينبغي التأمّل فيه. فبما أنّ الجموع كانت تقول: بعضهم إنّه إيليا، وآخرون إنّه إرميا، وآخرون إنّه أحد الأنبياء، فقد استحضر الأعظمَ من الأنبياء، ليُريهم الفرق بين العبد والسيّد.
ويمكننا أن نستخلص معنى آخر من ذلك الحدث. فاليهود كانوا يتّهمونه دائمًا بأنّه يخالف الناموس، ويعدّونه مجدّفًا لأنّه، في نظرهم، كان يغتصب مجدًا لا يليق به، أي مجد الآب، وكانوا يقولون: «هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ سبت الراحة» (يوحنا 9: 16)؛ وأيضًا: «لسنا نرجمك من أجل عمل صالح، بل من أجل تجديف، ولأنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا» (يوحنا 10: 33).
ولكي يُظهر أنّ هذين الاتهامين كانا نابعين من حسد اليهود، وأنّه لم يخطأ في أيٍّ منهما، وأنّ ما جرى ليس تعدّيًا للناموس ولا انتحالا لمجد لا يخصه – أي بوصفه نفسه بأنّه مساوٍ للآب – لذلك أظهر من تألّق في هذين المجالين الروحيّين، اعني موسى و ايليا.
فموسى، بلا شكّ، هو من أعطى الناموس، وبالتالي، كان من السهل لليهود أن يفهموا بأنه لا يمكن أن يحتمل اي انتهاك الناموس كما كانوا يظنّون؛ ولن يخدم موسى من خالف الناموس وعدّه عدوًّا له. وأما إيليا، فقد كان غيورًا لمجد الله. فلو كان المسيح ضدّ الله، وادّعى باطلًا أنّه مساوٍ للآب، لما كان إيليا نفسه حاضرًا، ولما كان ليطيعه.
لكن ثمّة سببًا إضافيًا يمكن ذكره مع ما سبق. ما هو؟ لكي يعرفوا أنّه يملك سلطانًا على الحياة والموت، ويسود على العلويّات والسفليّات. ولهذا يُظهر كلاً من الحيّ والميت.
وأثناء ظهورهما، لم يلتزما الصمت، بل تحدّثا عن المجد الذي كان مزمعًا أن يناله في أورشليم – أي عن الآلام، والصليب، و القيامة أيضًا.
لكن النعاس كان قد غلب التلاميذ الطوباويين قليلًا، لأنّ المسيح كان يواظب على الصلاة من دون انقطاع. وهكذا ظهرت الحال البشرية للتلاميذ بوضوح من خلال التدبير الإلهي.
وعندما استيقظوا، شاهدوا التبدّل المهيب والعجيب. واعتقد بطرس العظيم أنّ زمن ملكوت الله قد أتى، فأراد البقاء على الجبل، واقترح إقامة ثلاث مظال، دون أن يدرك ما يقوله.
لأنّ ساعة نهاية الدهر، لم تكن قد اتت ولم يكن الوقت قد حان بعد كي يشارك المؤمنون فيما وُعدوا به من الله. فكما يقول الرسول بولس: «سيحوّل جسد تواضعنا ليصبح مثل جسد مجده» (فيليبي 3:21)، أي جسد
ولأنّ التدبير الخلاصي كان لا يزال في بدايته، ولم يكن قد اكتمل بعد، فكيف كان ممكنًا للمسيح أن يُتمّمه بمحبّته للبشر، لو لم يشأ أن يتألّم لأجلهم؟ لقد خلّص العالم الذي تحت السماء، لا فقط بتحمّل الموت الجسدي، بل بإبطاله بقيامته من الأموات.
لذلك، كان بطرس لا يعرف حقًا ما يقول.
ومع ذلك، فإلى جانب تلك الرؤية العجيبة والمجيدة لمجد المسيح، قد جرى أيضًا أمر آخر، مفيد وضروري، لتثبيت الإيمان به، ليس فقط للتلاميذ، بل ولنا نحن أيضًا.
جاء صوت من السحابة، من العلى، من الله الآب، قائلا: «هذا هو ابني الحبيب، المختار، له اسمعوا». وعند سماع الصوت، يقول الإنجيلي، وُجد يسوع وحده (متى 17: 5–8).
أمام هذا، ماذا يمكن أن يقول اليهودي القاسي القلب، الغير قابل للتأديب، العاصي، ذو القلب الذي لا يخضع للإرشاد؟ ها هو موسى حاضر، ومع ذلك الآب يوصي الرسل القدّيسين أن يسمعوا له.
فلو كان الله الآب يريد منهم أن يتبعوا وصايا موسى، لقال: «أطيعوا موسى، احفظوا الناموس». لكنه لم يقل هذا، بل فيما كان موسى وإيليا حاضرين، أمر أن يسمعوا له، أي للمسيح.
ولكن لكي لا يفتري البعض على الحقيقة، قائلين إنّ الآب أوصى أن يسمعوا لموسى أكثر من المسيح مخلّصنا، اضطرّ الإنجيلي أن يضيف ويكتب أنّه عند سماع الصوت، وُجد يسوع وحده.
وهكذا، حين وجّه الله الآب وصيّته للرسل من السحابة: «اسمعوا له»، لم يكن موسى موجودًا، ولا إيليا، بل كان المسيح وحده. ولهذا أوصى أن يسمعوا له دون سواه.
لأنّه هو نفسه غاية الناموس والأنبياء و هدفهم. ولهذا قال للجمع اليهودي: «لو كنتم تؤمنون بموسى، لكنتم تؤمنون بي، لأنّه كتب عنّي» (يوحنا 5: 46).
ولأنّهم لم يكفّوا دائما عن احتقار الوصيّة التي أُعطيت عبر موسى العظيم، ولم يصغوا إلى الكلمة التي أُعلنت عبر الأنبياء القدّيسين، فقد حُرموا بعدلٍ، وتغرّبوا عن الخيرات التي وُعد بها آباؤهم.
لأنّ «الطاعة أفضل من الذبيحة، والإصغاء بانتباه أفضل من تقديم شحم الكباش». وهذه هي حال اليهود.
وأما بالنسبة لنا نحن، الذين نلنا المعرفة الكاملة بظهوره، فإن كلّ شيء سيكون مباركًا وخيرًا لنا. فالمسيح نفسه سيكون لنا الوسيلة والمنبع لكلّ عطية. وبه ومعه، ومع الروح القدس، فليتمجّد الله الآب، ولتُظهَر قوّته ويُعترف بها في الدهور التي لا نهاية لها.

اترك تعليقاً