الأب جوزف خليل –
حين يُلقى علينا كلام جارح أو يُرتكب فعل مؤذي، يقف القلب عند مفترق طرق. طريق الانتقام أقصر وأسرع، لكنه يبني جدارًا بيننا وبين الآخرين ويزيد التوتر الداخلي.
أما الطريق الأعمق، فهو حفظ الودّ:
قرار واعٍ يتيح لنا التعامل مع الإساءة بروح هادئة، والحفاظ على علاقاتنا ومصداقيتنا، وتنمية قدرتنا على التواصل الناضج.
في الطفولة، حين يجرحنا صديق أو يأخذ شيئًا نحبه، يثور الغضب بسهولة. لكن مشاركة اللعب مجددًا أو الاستجابة بطريقة هادئة تعلمنا التسامح منذ الصغر، وتزرع بذور القدرة على التعامل مع الجروح الصغيرة والكبيرة بحكمة.
في المراهقة وسنّ الشباب، حين يُوجّه زميل كلمة جارحة أو يسخر منا صديق، يغمرنا شعور الإهانة والرغبة في الردّ بالمثل. حفظ الودّ هنا يعني التوقف للحظة، التفكير في النتائج، والمضي قدمًا بلطف، مما يقوي شخصيتنا ويمنحنا القدرة على مواجهة المواقف الصعبة بحكمة.
في العمل وسنّ البلوغ، حين يُنسب فضلنا لآخر أو يُخذلنا زميل، قد يغري الانتقام أو النميمة. حفظ الودّ يُترجم إلى الاحتفاظ بالنزاهة والمهنية، والحفاظ على علاقات إيجابية، والاستفادة من التحديات لتطوير مهارات حل النزاعات وبناء الثقة بين الزملاء.
في العائلة، حين تجرحنا كلمات أحد الأحباء أو يتصرف أحدهم بطريقة مؤذية، قد نميل لإغلاق القلب وحمل الضغينة. حفظ الودّ هنا هو اختيار الحوار، والبحث عن حلول بنّاءة، والاستمرار في التعامل بالاحترام والتفهم، حتى في خضم الاختلافات.
وفي المجتمع وفي الشيخوخة، حين نواجه الإساءة من غرباء أو التجاهل، يبقى حفظ الودّ ممارسة للهدوء الداخلي وضبط النفس، وإتقان فن التعاطف والصبر، وهو مهارة حياتية تُحافظ على راحتنا النفسية وتجعل تعاملنا مع الآخرين أكثر فاعلية.
كل إساءة تواجهنا هي فرصة لاختبار قدرتنا على ضبط النفس وبناء جسور الثقة والاحترام.
لكن هل نسأل أنفسنا:
هل نختار الرد الفوري بالغضب أم نأخذ لحظة للتفكير بطريقة بنّاءة؟
هل نستطيع الحفاظ على هدوئنا واحترام الآخرين رغم الإحباط؟
هل نحول المواقف المؤذية إلى فرص لتطوير أنفسنا وتعزيز علاقاتنا؟
الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا هي جزء من نضالنا اليومي:
كيف يمكنني التعامل مع كل إساءة بطريقة تعكس نضجي وقدرتي على التحكم بذاتي؟
هل أستفيد من التجربة لأصبح أكثر حكمة وصبرًا؟
هل أستطيع أن أترك مساحة للتفاهم بدل الانغماس في الغضب والانتقام؟
الردّ بالغضب يزرع حواجز ويجعلنا أسرى للتوتر والمرارة، بينما حفظ الودّ يبني جسورًا من الاحترام والتفاهم، ويمنحنا القدرة على رؤية الآخرين بعيون أكثر نضجًا ووعيًا.
حفظ الودّ هو نضال داخلي حقيقي، تمرين على الصبر، التسامح، والمحبة التي تتجاوز العدالة البشرية.
ومن اختار هذا الطريق، صار مرآة للمسيح، الذي رغم أنفُسه وجراحه على الصليب، قال: “يا أبتِ، اغفر لهم” (لوقا 23: 34).
كل إساءة هي فرصة لنعمة الله أن تعيد ترتيب قلبنا.
الردّ بقوة يزرع جدارًا بيننا وبين الآخرين، بينما حفظ الودّ يبني جسورًا، ويترك القلب مضاءً بالسلام الذي يفوق كل عقل (فيلبي4: 7)
فلتجعل هذا الاختيار نهجًا يوميًا:
توقف قبل أن ترد، فكر قبل أن تنفعل، وحاول دائمًا أن تتحلى بالصبر والتفاهم.
دع حفظ الودّ يكون دليل حياتك، الطريق الذي يقوي داخلك، ويمنحك الحكمة في علاقاتك، ويحوّل كل صعوبة تواجهها إلى فرصة للنمو الشخصي والاجتماعي.
اسعَ لتطبيقه في كل موقف، واجعل من قلبك مساحة للهدوء، ومن علاقاتك جسورًا من الاحترام والتفاهم والمحبة.