عندما تُهزّ القارورة: المشكلة الحقيقية للإنسان المعاصر

You are currently viewing عندما تُهزّ القارورة: المشكلة الحقيقية للإنسان المعاصر
المطران تيودور الغندور-
تُروى حكاية رمزية بسيطة لكنها تحمل معنى عميقًا: إذا وضعتَ مئة نملة حمراء ومئة نملة سوداء في قارورة واحدة، فلن يحدث شيء. تعيش النملات بسلام.
لكن، إن قام أحدهم بهزّ القارورة، تبدأ النملات في مهاجمة بعضها البعض حتى الموت، ظنًّا أن العدو هو النملة ذات اللون الآخر. المشكلة، إذًا، ليست في النمل، بل في اليد التي هزّت القارورة.
هذه الصورة تعبّر بدقّة عن مأساة الإنسان المعاصر. فنحن نعيش في عالم يُهزّ باستمرار بقوى تنشر الخوف والانقسام والتضليل. والإنسان الحديث، الغارق في سيلٍ من المعلومات والأفكار والأهواء، فقد القدرة على تمييز العدو الحقيقي: ليس الإنسان الآخر، بل روح الشر التي تبث الكراهية والانقسام.
يقول الرسول بولس: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات.” (أفسس 6:12). ومع ذلك، ما زال الإنسان يحارب “اللحم والدم”، فيرى أخاه عدوًّا له. شعوب تتقاتل، ومذاهب تتناحر، ومؤمنون ينقسمون على بعضهم البعض، لأن القارورة تهتزّ بأيدي أولئك الذين يستفيدون من الفوضى والخوف والضياع.
حذّر الآباء القديسون عبر العصور من أن أعظم انتصار للشيطان هو أن يجعل الإنسان يرى أخاه عدوًّا، لا الخطيئة.
قال القديس يوحنا كاسيان: “الشيطان لا يخاف من الصوم ولا من السهر بقدر ما يخاف من المحبة بين الإخوة. فحيث يوجد انقسام، لا يسكن روح الله.” وقال القديس باسيليوس الكبير: “الشيطان لا يخلق شيئًا جديدًا، بل فقط يُقسّم ما هو كامل.” وهذا بالضبط ما نراه اليوم: إنسانية مُمزقة، تُهزّ بالجدالات والانقسامات، وقد نسيت أن غايتها الأولى هي الشركة مع الله ومع القريب.
أصبحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والأطماع السياسية والاقتصادية هي الأيدي التي تهزّ القارورة.
تغذي الغضب، وتزرع الحقد، وتُعمّق الانفصال بين الناس.
الإنسان المعاصر يسمع أصوات الجميع، لكنه فقد الإصغاء إلى صوت الله في قلبه.
تنبأ القديس أنطونيوس الكبير قائلًا: “سيأتي زمان يتصرّف فيه الناس كالمجانين، فإذا رأوا إنسانًا عاقلًا، يهاجمونه قائلين: أنت مجنون، لأنك لست مثلنا.” وكأن هذه النبوءة تصف زماننا بدقة. صار الهدوء يُفهم ضعفًا، والإيمان يُتَّهم بالتطرّف، والحكمة تُعتبر جمودًا. القارورة لا تكفّ عن الاهتزاز.
تعلّمنا الكنيسة الأرثوذكسية أن الخلاص من هذا الاضطراب لا يكون إلا باليقظة الروحية، أو ما يسميه الآباء النيبْسِس (nêpsis)، أي السهر الداخلي. حين يهتزّ العالم، يجب أن يبقى قلب المسيحي ثابتًا. فالمسيح، أمام الحقد، أجاب بالمغفرة. وأمام الضوضاء، أجاب بالصمت والحق. وأمام الموت، أجاب بالقيامة.
قال الرب:”طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون.”
(متى 5:9). صانع السلام ليس ضعيفًا، بل ثابتًا في الحق وسط الفوضى. هو الذي يرفض أن يُستخدم من أولئك الذين يهزّون القارورة، ويرى في كل إنسان صورة الله، مهما اختلف عنه. المشكلة الكبرى في إنسان هذا العصر ليست الصراع نفسه، بل العمى الروحي الذي يمنعه من رؤية اليد التي تهزّ القارورة. فبينما نحارب بعضنا، يفرح العدو الحقيقي بانقسامنا.
يدعونا الآباء القديسون إلى سهرٍ دائم على القلب، وأن نسأل أنفسنا كل يوم: من الذي يهزّ قارورتي اليوم؟ هل هي الأهواء؟ الكبرياء؟ الإعلام؟ الخوف؟
الحرية الحقيقية تبدأ حين نكفّ عن الانفعال مع اهتزازات العالم، ونتجذر في المسيح. عندها فقط، يمكن للإنسانية أن تجد السلام الذي فقدته.

اترك تعليقاً