عيد الدنح

You are currently viewing عيد الدنح

الخوري نسيم قسطون:

في عيد الدنح، نقف أمام حدث يمزج بين تواضع السماء وعظمة التجلي الإلهي، لنغوص في تأملات تعكس عمق العلاقة بين الإنسان وخالقه.

يوحنّا المعمدان، هذا الصوت الصارخ في البرية، يعلّمنا من خلال أفعاله وكلماته أن نكون شهودًا على تواضعٍ لا ينفصل عن الحق. فقد أدرك يوحنا محدوديّته ودوره كتمهيدٍ للطريق أمام الربّ، معلنًا أنّ العماد الذي يمنحه هو للتوبة، في حين أنّ المسيح الآتي يعمّد بالروح القدس والنار، جاعلًا أبناء الله يولدون للحياة الجديدة.

هذا الإدراك دفع يوحنا لأن يتخلّى عن ذاته ليعظّم الله، ولعلّ في قوله: “عليه هو أن يزيد وعليّ أنا أن أنقص”، دعوة لكلّ واحد منّا لأن يقف أمام ذاته متأملًا في معنى دعوته. هل نحيا لنرفع ذواتنا، أم نُسلّط الضوء على حضور الله في حياتنا؟ إنّ وعي يوحنا بدوره لم يكن مجرّد تواضع، بل كان شهادة على عمق محبّته لله واستعداده لتقديم كلّ ما لديه في سبيل مجده.

أما حدث معمودية يسوع (لوقا 3: 15-22) فيكشف عن سرّ الثالوث الأقدس، حيث صوت الآب يُعلن الابن الحبيب، والروح القدس يحلّ عليه كحمامة. هذه اللحظة الفريدة ليست مجرّد إعلان لرسالة المسيح، بل تأسيس لعلاقة جديدة بين الله والبشر. لقد طهّر يسوع المياه ليجعلها رحماً للولادة الجديدة، حيث ينتقل الإنسان من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة. بمعموديّتنا، نُدعى لنكون أبناء الله، نحيا في هذا العالم لكن بقلوب مرفوعة نحو السماء.

مع عماد المسيح، نتعلّم أن نعيش حياة قائمة على التواضع والخدمة. فإن كان ابن الله قد قبل أن يتواضع ليعتمد، فكم بالحري نحن، المدعوّون لنحيا في طاعةٍ متواضعة لمشيئة الآب؟ هذا التواضع ليس ضعفًا، بل هو قوّة تُظهر عمق حبّ الله لنا واستعدادنا لنكون أدواته في العالم.

عيد الدنح ليس ذكرى نحتفل بها فحسب، بل هو دعوة متجدّدة لنعيش معموديّتنا كلّ يوم. نحن مدعوّون لأن نكون أبناء النور في عالم يغشاه الظلام، وأن نحمل بشارة الخلاص إلى كلّ من حولنا. فكما فتح المسيح أبواب السماوات يوم اعتماده، نحن أيضًا مدعوّون لنفتح قلوبنا لنعم الروح القدس ونسعى لنكون علامات حيّة لحبّ الله في هذا العالم.

في هذا العيد، لنسأل أنفسنا: هل نحيا فعلاً كأبناء الله؟ هل نستثمر كلّ لحظة من حياتنا لنُظهر مجده؟ وهل نمتلك شجاعة يوحنا لنعترف بمحدوديتنا ونعطي المجال لله ليعمل من خلالنا؟ هذه الأسئلة ليست مجرّد تأمّل، بل هي دعوة لتحوّلٍ داخليّ يجعلنا أكثر انتماءً إلى ملكوت الله.

لنقف اليوم أمام جرن معموديتنا بقلوب مفعمة بالامتنان، ونسأل الروح القدس أن يُجدّد فينا نعمة البنوة لله. نحن لسنا مجرّد أفراد، بل أعضاء في جسد المسيح الواحد، مدعوّون لنكون شهودًا لحبّه وخلاصه. فلنستجب لهذه الدعوة بكلّ أمانة وتواضع، متمثّلين بالمسيح الذي أظهر لنا أنّ الطريق إلى المجد يمرّ عبر التواضع والخدمة.

كلّ عيد دنح وأنتم أبناء النور، شهودًا للحق، وأدوات سلام في عالمٍ يتعطّش إلى وجه الله.

اترك تعليقاً