عيد العنصرة

الخوري نسيم قسطون:

في عيد العنصرة، تتأمّل الكنيسة في قراءة من أعمال الرسل (2: 1-21) تبيّن أنّ حلول الروح القدس وحّد بين جماعة متعدّدة اللغات والجنسيات والأعراق وجعلها كنيسة واحدة.

ظهر الّروح القدس على الرؤوس بشكل لسان من نار… وهو ما يذكّرنا بقول يوحنا المعمدان: “أَنَا أُعَمِّدُكُم بِالـمَاءِ لِلتَّوبَة. أَمَّا الآتِي بَعْدِي فَهُوَ أَقْوَى مِنِّي، ولَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ يُعَمِّدُكُم بِالرُّوحِ القُدُسِ والنَّار” (متى 3: 13).

رمز النّار رمزٌ مهمّ إستخدمه يسوع لتحذير أتباعه من مغبّة الفشل في أداء الرسالة الموكولة إليهم كما في قوله: ” كُلُّ شَجَرَةٍ لا تُثْمِرُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وتُلْقَى في النَّار” (متى 7: 19). وهنا النار هي إما نار الله المُطهِّرة/المُعمِّدة التي تؤدي إلى تغيير النفوس لتُصقل فتُثمر (يشوع بن سيراخ 2: 5)، وإن لم تُثمر أيضًا فهي نار جهنم، نار الحسرة لإبتعاد الإنسان عن الله للأبد (مرقس 9: 43).

والنّار تدلّ أيضًا على التغيير الّذي أراد يسوع إجراءه في الكون: “جِئْتُ أُلْقِي عَلَى الأَرْضِ نَارًا، وَكَمْ أَوَدُّ لَوْ تَكُونُ قَدِ إشْتَعَلَتْ!” (لوقا 12/49). وهنا النار هي نار المحبة، محبة الإنسان لله ولأخيه الإنسان التي يتمنى الرب يسوع أن توازي محبة الله للإنسان التي لا ينطفيء لهيبها، فـ”إلهنا هو نارٌ آكلة وإلهٌ غيور” (تثنية الإشتراع 4: 24، عبرانيين 12: 29)، فهذه المحبة تؤدي إلى تغيير البشرية نحو الكمال.

هذا كان طبعاً من مفاعيل حلول الروح القدس عليهم الّذي أعاد جمع البشريّة التي فداها يسوع بموته وقيامته في جماعةٍ واحدة تعبد رباً واحداً ولها إيمان واحدٌ ومعموديّة واحدة (أف 4\5).

لقد أزال الروح القدس الانقسام اللغوي أو العرقي ليحلّ محلّه الوحدة في الإيمان داخل الكنيسة الواحدة حيث، وفقاً لمار بولس، “لَبِسْتُمُ الإِنْسَانَ الـجَديدَ الَّذي يتَجَدَّدُ لِيَبْلُغَ إِلى تَمَامِ الـمَعْرِفَةِ على صُورَةِ خَالِقِهِ. فلا يُونَانِيٌّ بَعْدُ ولا يَهُودِيّ، لا خِتَانَةٌ ولا عَدَمَ خِتَانَة، لا أَعْجَمِيٌّ ولا إِسْكُوتِيّ، لا عَبْدٌ ولا حُرّ، بَلِ الْمَسِيحُ هُوَ الكُلُّ وفي الكُلّ” (قول 3\10-11).

نجد في النصّ شعوباً مختلفةً، ولكن مجتمعة معاً لكي تصغي إلى الرسل ويتبيّن أنّ كلّاً منهم كان يفهم خطاب الرسل بلسانه هو رغم كون الرسل جميعاً من شعبٍ واحد (يهود) ومن منطقةٍ واحدة (الجليل).

لم يقل النصّ إن الرسل كانوا يتكلّمون لغةً واحدة، بل قال إن ما كانوا يقولونه كان مفهوماً من الجميع. ولعلّ هذه هي العبرة الأهمّ في هذا الأسبوع: قد نختلف بالآراء وبالانتماءات وبالمواقف، ولكنّ الأهم هو أن نحافظ على الحدّ الأدنى من التفاهم والتواصل لأن المسيح الّذي يجمعنا أهمّ وأبقى من كلّ المبادئ أو الأحزاب أو الشعارات التي تفرّقنا.

في يوم العنصرة، بدأت مسيرة الكنيسة الرّسوليّة والتي هي كنيسة الإنسان وكنيسة للإنسان وفق ما أكّد البابا بولس السادس أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، في 4 تشرين الأوّل 1965، حين قال: “الكنيسة خبيرةٌ في الإنسانيّة” وهو كلامٌ ردّده وفصّله في رسالته العامّة “تقدّم الشعوب” (الصادرة في 26 آذار 1967).

يتوضّح هذا أكثر في إنجيل العيد (يوحنا 14\ 15-20) حيث يتوجّه الربّ يسوع إلينا بالقول: “إن تحبّوني تحفظوا وصيّتي”!!!

نستذكر هذا الشرط الّذي إشترطه الربّ يسوع ونفحص ضمائرنا لنرى كم نحبّ الربّ فعلًا وكم نسعى في حياتنا لترجمة محبّتنا له عبر أفعال المحبّة والغفران لمن يحملون صورة الله ومثاله، أي الناس، كلّ النّاس، الّذين “من أجلهم ومن أجل خلاصهم”، تجسّد وتألّم ومات وقبر… وقام في اليوم الثالث.

لا يمكننا أن نحفظ هذا الشرط دون قوّة الرّوح القدس، البرقليط… الرّوح القدس… المحامي والمؤيّد…

الرّوح القدس هو الله الّذي يملأ فراغنا الرّوحيّ والعاطفيّ والإنسانيّ إن قدّمنا له فعلاً قلبنا من دون مقدّمات ومطوّلات وشروط وهو ما لخّصته القدّيسة تيريزيا الطفل يسوع بالقول: “في قلب الكنيسة أمّي، سوف أكون الحبّ”ّ

هذا العيد، عيد العنصرة، يدعونا جميعًا إلى متابعة هذه المهمّة العظيمة، عبر إنفتاح القلب على عمل الرّوح القدس لتشعّ أنواره عبرنا ومن خلالنا إلى العالم فننضحه بروح الله الّذي يسكن قلوبنا!

كلّ عيد وأنتم بخير!

اترك تعليقاً