الخوري نسيم قسطون:
في ليلة الميلاد، تحت ضوء النجم الهادي وفي قلب مغارة بسيطة، يتجلى سرّ الحب الإلهيّ.
ليس الميلاد مناسبة تتكرر عامًا بعد عام، بل هو دعوة يوميّة للتأمل في عظمة الله الذي اختار أن يكون قريبًا منا، ليمسح دموعنا، ويملأ حياتنا بالرجاء. في كل تفصيل من هذا الحدث العظيم، تتجلى رسالة حبّ موجهة إلى كل قلب يبحث عن النور في وسط ظلمات الحياة.
ميلاد المسيح ليس حدثًا عابرًا، بل هو بداية جديدة تُعيد رسم ملامح التاريخ والإنسانية. طفل المغارة الذي كان فقيرًا بالماديات، كان غنيًا بما يفوق كل ثروة: رسالة السلام التي تخترق القلوب، وتجدّدها لتكون انعكاسًا حقيقيًا لمحبّة الله. المغارة ليست مجرّد مكان، بل صورة لحياتنا حين يشرق فيها نور المسيح، ليدفئ قلوبنا الباردة، ويمحو عنها آثار الظلام واللامبالاة.
حين ننظر إلى المذود، نرى أكثر من مجرد طفل. نرى الله الذي اختار التواضع ليكون في متناول الجميع. في وجه الطفل، نرى الله الذي يقترب من البعيد، ويبحث عن الضائع، ويجلب السلام للقلقين. ليس الميلاد مجرّد احتفال، بل هو فرصة لنفتح قلوبنا لله، لنسمح له بأن يولد فيها، ويغيّرنا من الداخل. هو زمن لنجدد فيه إيماننا ونجد معنى حياتنا في محبة الله التي لا تعرف الحدود.
العيد يدعونا لنستعيد دفء العلاقة مع الله ومع بعضنا البعض. هل نترك يسوع يولد في قلوبنا؟ أم نغلقها عليه مشغولين بهموم الدنيا؟ هذا السؤال لا ينفكّ يطرق باب نفوسنا كل عام، ويحثنا على أن نكون مستعدين لاستقبال نور الميلاد بفرح وإيمان. الميلاد يعلّمنا أنّ السلام لا يأتي من الظروف، بل من الله الذي يعمل في قلوبنا، ويحوّل ألمنا إلى فرح، وصمتنا إلى ترنيمة تهليل.
النجم الذي قاد المجوس نحو المغارة لا يزال يضيء طريق الباحثين عن الله. كم منّا يبحث عن هذا النجم في حياته؟ قد يكون هذا النجم كلمة رجاء، أو عمل محبة، أو صلاة ترفعها قلوبنا المتعبة. الميلاد هو دعوة للبحث عن النجم الذي يقودنا إلى المسيح، لنكتشف من جديد أننا لسنا وحدنا في هذه الحياة. الله معنا، يحمل أثقالنا، ويشجعنا على الاستمرار رغم كل الصعاب.
في عالم مشبع بالانقسامات، يأتي الميلاد ليجمعنا حول مغارة الحبّ الإلهيّ. يدعونا لنضع خلافاتنا جانبًا، ونسعى إلى الوحدة والسلام. كما اجتمع الرعاة والمجوس حول الطفل يسوع، نحن مدعوّون لنتجاوز كل ما يفرقنا، ونعيد بناء الجسور مع من حولنا. في هذه اللحظة، نجد في الميلاد معنى أعظم للحياة: أن نعيش لنحب، ونحب لنعيش.
لا يمكننا الاحتفال بالميلاد دون أن نأخذ لحظة لنفكّر في عمق هذا السرّ. الله الذي خلق الكون بكل عظمته، يدخل التاريخ ليشاركنا إنسانيّتنا، ويحوّل ضعفنا إلى قوّة، ومحدوديتنا إلى مجالٍ لا حدود له من النعمة. هذا السرّ يتحدى كل منطق بشريّ، ويجعلنا نتساءل: كيف يمكن أن نبادل هذا الحب العظيم؟ هل نحن مستعدّون لأن نعيش حياتنا كشهادة حيّة على محبّة الله؟
العيد ليس فقط ما نحتفل به يوم 25 كانون الأوّل، بل هو دعوة يوميّة لنفتح حياتنا لله، ونتركه يغيّرنا. عندما يولد المسيح في قلوبنا، نبدأ في رؤية العالم بعيونه: نرى المحرومين، ونشعر مع المتألمين، ونعمل على بناء عالمٍ يعكس محبّته وسلامه. هذه هي رسالة الميلاد، رسالة تتجاوز الزمان والمكان، وتصل إلى كل قلب مستعدّ ليصغي.
ولد المسيح! هذه الكلمات ليست مجرد تهليل بل هي إعلان حقيقيّ عن حب الله الذي لا ينضب. في ميلاده، أظهر لنا أنّ الفرح الحقيقيّ لا يُشترى بالمال، ولا يُقاس بالممتلكات، بل ينبع من القلب الذي يعترف بحضور الله في حياته. ومع هذا الميلاد الجديد، كلّنا مدعوّون لنجدد عهدنا مع الله، ونسمح لنور المسيح بأن ينير طرقنا، ويدفئ قلوبنا.
في نهاية هذه التأمّلات، لا بدّ أن نتذكّر أنّ الميلاد ليس محطة عابرة في حياتنا، بل هو دعوة دائمة لنكون نورًا في عالمٍ يتوق إلى الرجاء. فلنحتفل بالميلاد بمعناه الحقيقيّ، ولنكن شهودًا على محبّة الله التي وُلدت لتبقى إلى الأبد. كل عام وأنتم بخير، والمسيح دائمًا في قلوبكم. آمين!