يأتي الاحتفال بعيد الميلاد في بلدة غلبون بوصفه فعلًا رمزيًا يتجاوز الإطار الاحتفالي الظاهر، ليغدو ممارسة جماعيّة تعيد إنتاج المعنى الروحي والاجتماعي للعيد في الوعي الجمعي. فالقدّاس الإلهي، الذي شكّل محور المناسبة، لم يكن مجرّد طقس ديني دوري، بل لحظة تأمّل جماعي في سرّ التجسّد، حيث يتقاطع الإيمان مع الرجاء، ويتحوّل الحضور المشترك إلى شهادة حيّة على استمراريّة الرسالة الميلاديّة في الزمن المعاصر.
وإذ أعقب القدّاس افتتاح شجرة الميلاد والمغارة، برز البعد المكاني للاحتفال بوصفه عنصرًا دلاليًا أساسيًا. فالساحة العامّة، التي احتضنت هذا الحدث، تحوّلت إلى فضاء رمزي جامع، تتلاقى فيه الذاكرة الدينيّة مع الممارسة الاجتماعيّة. إنّ الشجرة، بما تحمله من دلالات الحياة والتجدّد والنور، والمغارة، بما تختزنه من بساطة وتواضع، تشكّلان معًا ثنائيّة رمزيّة تعيد التذكير بجوهر الميلاد: ولادة الرجاء في قلب الهشاشة الإنسانيّة.
وقد عكس الحضور الرسمي والشعبي، بمشاركة رئيس بلديّة غلبون السيّد إيلي جبرايل، وكاهن الرعيّة المهندس جان جبران، إلى جانب رئيس بلديّة بجّة السيّد رستم صعيبي، ومختار البلدة والفعاليّات الاجتماعيّة، تماهي المؤسّسة المدنيّة مع الفعل الطقسي، في مشهد يؤكّد أنّ الأعياد الدينيّة، ولا سيّما الميلاد، ما زالت تشكّل مساحة جامعة تُعيد وصل ما قد يفرّقه اليوميّ والسياسيّ، وتؤسّس لحوار صامت بين السلطة المحليّة والمجتمع.
وعلى المستوى الثقافي، أضفت الأنشطة المرافقة، من موسيقى وأناشيد ميلاديّة وأكشاك طعام، بُعدًا إنسانيًا إضافيًا على المناسبة، حيث تماهى الفرح مع الذاكرة، وتحول الاحتفال إلى فعل مشاركة لا إلى مجرّد مشاهدة. أمّا شجرة الميلاد، التي تميّزت هذا العام بتصميمها الاستثنائي، فشكّلت تعبيرًا بصريًا عن الذوق الجماعي والجهد المشترك، وعن رغبة البلدة في تجسيد العيد لا كحدث عابر، بل كعلامة جمال ومعنى في الفضاء العام.
في المحصّلة، يمكن قراءة احتفال غلبون بعيد الميلاد بوصفه ممارسة ثقافيّة–روحيّة تعيد تثبيت قيم الإيمان، والتضامن، والانتماء، في زمن تتكاثر فيه الهشاشة والقلق. إنّه فعل مقاومة ناعمة للنسيان واليأس، ورسالة صامتة مفادها أنّ الرجاء، وإن وُلد في مغارة متواضعة، قادر على أن يضيء جماعة بأكملها، ويمنحها القدرة على الاستمرار والمعنى.
