ألين الحاج- نداء الوطن
لم يكن فنّاناً عابراً في تاريخ المسرح والتلفزيون، بل أسطورة تتنفس على الخشبة وخلف الشاشة. بموهبته الاستثنائية وإحساسه العميق، تألّق أنطوان كرباج في رحاب المسرح الإغريقي، وأعاد إحياء مسرح “شكسبير” بروحٍ شرقية نابضة بالحياة، كما حمل روحه على خشبة الرحابنة، وترك بصمة ذهبية في الدراما التلفزيونية. رحل كرباج بالجسد لكنّ أعماله ستبقى شاهدة على زمنه، وصوته سيظل يرنّ في ذاكرة عشاق المسرح، ليحكي قصة ممثّل لن يتكرّر، ومدرسة في الأداء، وأيقونة ثقافية لن تُنسى.
خسرتُ رفيق عمر” بهذه العبارة يختصر الممثّل رفعت طربيه حزنه على رحيل الممثّل أنطوان كرباج، الصديق الذي عرفه منذ نعومة أظفاره. ويتذكر طربيه لقاءاته العديدة مع كرباج الذي كان يكبره بخمسة عشر عاماً، وكان صديقاً مقرّباً لشقيقه عباس. يروي لـ “نداء الوطن” كيف كانت فرقة منير أبو دبس، التي ضمّت أنطوان كرباج، ورضا خوري، وميشال نبعة، وريمون جبارة، تجتمع في منزل شقيقه، وهو يشوي لهم اللحم ويسترق السمع إلى أحاديثهم.
يكشف طربيه أنّ دخوله المسرح عام 1973 كان بسبب هالة أنطوان كرباج في المسرح اللبناني، لتتطوّر علاقتهما لاحقاً، حيث شارك في أول مسرحية معه، “شربل” لريمون جبارة، فيها جسّد طربيه دور القديس شربل، فيما لعب كرباج دور الشيطان.
يستعيد طربيه تلك المرحلة فيقول “عندما كنّا نُجري مراجعات للمسرحيات، كان أنطوان يُبهر الجميع بحفظه الدقيق لنصِّه. لذا، كان تعرّضه للألزهايمر في عمر الثمانين مفاجأة صادمة لكلّ من عرفوه عن قرب. وأنطوان، رغم عظمته، كان ممثّلاً يحترم جدّاً المواعيد والمخرج وينفذ بحرفية عالية ما يريده المخرج من دون جدال.
استثنائيّ الأداء
تألق كرباج في بداياته مع المسرح الإغريقي، يقول طربيه، لا سيّما في مسرحية “أوديب ملكاً”، ويضيف أنه “قدّم أداءً استثنائياً في “ماكبث” لشكسبير، حيث برزت قوّة حضوره المسرحي، ما جعله برأيي ممثلاً عالمياً وليس فقط لبنانياً”. المحطة الثانية الأكثر تأثيراً، بحسب طربيه، كانت مسرحيّة “الملك يموت” لـيونسكو والتي ترجمها أنسي الحاج، حيث قدّمها كرباج ببراعة جعلت يونسكو نفسه يقول له عندما التقاه في “قصر الصنوبر” لاحقاً: “أنا هكذا فكّرت حين كنت أكتب الدَّور”.
تعاونه مع المخرج ريمون جبارة، كان محطة رئيسية أيضاً في مسيرة كرباج، وفقاً لرفيق العمر، حيث “التقت عبقريته التمثيلية برؤية جبارة الإخراجية”. ويضيف طربيه أنّ أعمال كرباج التلفزيونية كانت للحاجة المادية، رغم أدواره المهمّة مثل “جان فالجان” في مسلسل “البؤساء”، إلا أنه يرى أنّ المسرح الإغريقي والشكسبيري يظلّان ذروة العطاء الفني لزميله الراحل.
الزيارة الأخيرة
في سنواته الأخيرة، نسي أنطوان كرباج الجميع، حتى عائلته، يروي طربيه، متابعاً بحزن “حين زرته في المركز الاستشفائي قبل أربعة أشهر، لم يعرفني لكنه أمضى الوقت يغنّي لخليل روكز، إذ كان يحفظ كلّ أشعاره عن ظهر قلب. فأنطوان كان زجّالاً أيضاً”. ويضيف أنّ عائلته لم تتخلَّ عنه أبداً، حتى عندما انتقل إلى المركز حيث لقي رعاية كبيرة. ويستذكر طربيه آخر اتصال مع زوجة كرباج، لور غريّب قبل وفاتها، “أخبرتني أنها زارته ولم يعرفها، وحين سألها “مين أنتِ؟” أجابته “أنا لور” فردّ قائلاً “آه، أنا كان عندي زوجة اسمها لور”. فقلت لها “لازم تفرحي، على الأقل لا يزال يذكر أنّ لور كانت في حياته”.
باحث في الشخصيات
“خسارة أنطوان كرباج لا تعوّض”، يقول المؤلّف والموسيقي غدي الرحباني، مضيفاً لـ “نداء الوطن” أنّ الراحل لم يكن مجرّد ممثل بارع، بل شخصية استثنائية بثقافته الواسعة، إذ كان بحراً من المعرفة، يجمع بين السياسة والأدب والفن والشعر، إلى جانب كونه أستاذاً في التاريخ والجغرافيا”. ويعتبر أنّ هذه الخلفية الثرية جعلته أكثر من مجرد مؤدٍ، بل كان باحثاً في الشخصيات التي يجسّدها، يغوص في أعماق النص، ويمنحه أبعاداً جديدة.
ويكشف الرحباني أنّ الراحل الكبير، لم يعتمد على موهبته الفطرية وحدها، بل سعى منذ بداياته إلى تطوير صوته وصقل أدائه بانضباط صارم، وهو أمر نادر في عالم التمثيل. ويتذكر كيف كان كرباج، قبل اعتلائه خشبة المسرح، يحرص على القيام بتمارين تنفّس عميقة من البطن. وبفضل هذا التفاني، رسّخ الراحل مكانته كأحد أعمدة المسرح اللبناني.
أما عن علاقته بالأخوين الرحباني، فيشير غدي الرحباني إلى أنّ التعاون بدأ مع مسرحية “الشخص”، حيث أضاف كرباج بصمته الخاصة إلى المسرح الغنائي، مستفيداً من خبرته العميقة في المسرح التراجيدي الكلاسيكي. ثمّ شارك في أبرز أعمال الرحابنة، مثل “يعيش يعيش” و “صح النوم” و”بترا”. وبعد رحيل عاصي الرحباني، استمرّ مع منصور الرحباني، فكان جزءاً أساسياً من 4 مسرحيات من أصل 11، من بينها “صيف 840” و”حكم الرعيان”، إلى جانب أعمال تلفزيونية معهم.
في الكواليس
ومن الذكريات التي لا ينساها غدي الرحباني تلك الأوقات التي قضاها في كواليس المسرح، وأنطوان كرباج برفقة عاصي ومنصور الرحباني وفيلمون وهبي، وهم يقولون الشعر. ويأسف الرحباني لتقصير الإعلام والمدارس والأهل في تعريف الجيل الجديد بروّاد الفن والثقافة، داعياً الشاشات إلى إعادة بث هذه الأعمال، والأهل إلى ترسيخ هذا الإرث في منازلهم. كما حثّ المدارس على تعزيز الاهتمام بالإنتاجات الفنية، خاصة بعد التعاون الأخير معها لنشر أعمال الرحابنة في مناسبة مئوية عاصي ومنصور.
ويختم غدي الرحباني كلامه بأسى قائلاً “أنطوان في الحقيقة رحل منذ عشر سنوات، لكنّ اليوم فقدانه أشدّ وطأة وأكثر إيلاماً”، مستعيداً مقولة أنطوان كرباج عن عاصي الرحباني “الكبار لا يموتون، بل الناس يموتون فيهم”.