قديسون عبر الصلاة…

You are currently viewing قديسون عبر الصلاة…
‏‎الأب جوزف خليل-
في قلب الحياة المشتركة، لا يظهر معنى القداسة فقط في لحظات الصفاء، بل في احتكاك النفوس حين يُمتحَن صبرها وتنكشف هشاشتها.
‏‎عيد جميع القديسين يكشف لنا أنّ القداسة ليست امتيازًا خاصًا لقلة معزولة، بل دعوة شاملة، ومسار يومي للنعمة وسط تعب العلاقات، وضيق العيش المشترك، وثقل بعض الوجوه على الروح.
‏‎القديسون الذين نكرّمهم اليوم لم يبلغوا مجدهم عبر الهروب من الناس، بل عبر تحويل كل علاقة صعبة إلى مذبح صلاة، وكل خصومة إلى باب تواضع، وكل جرح إلى فرصة شفاعة.
‏‎لذلك حين تجد في قلبك نفورًا من أحد، صلّ له. وحين يثقل حضوره عليك، أو تُربكك ذكراه، أو يعكر صفو يومك، صلّ له.
لأن الصلاة من أجل من يصعب علينا هي مدرسة القداسة التي فيها يمسّ الروح القدس أعماقنا فيلين القساوة، ويطهّر دوافعنا، ويعيد ترتيب نظرتنا لأنفسنا وللآخر. هكذا نكتشف أنّ بيننا وبين من نتجنبهم مسافة نعمة، وأن الصلاة تغيّر القلب قبل أن تغيّر الأشخاص، لأن الوداعة ليست ضعفًا بل قدرة نعمة تعيد للروح شفافيتها.
‏‎القديسون الذين نحتفل بهم اليوم، لم يتركوا الحقد يسجنهم في ليل الكراهية، بل اختاروا أن يكونوا أبناء التطويبات: “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون” (متى ٥: ٩).
‏‎صانعي السلام يُولَدون في الصلاة التي تفتّت الغضب وتحرّر القلب من سُمّ الإهانة، وتُخرج النفس من مجالس الشماتة والثرثرة والتجريح، لأن هذه لا تبني قديسين ولا تؤسّس ملكوتًا.
‏‎كلمة المسيح وحدها هي البشرى السارة التي تجدد القلوب، وتوحّد النفوس، وتُنشئ مسيرة مصالحة تعبر من البيت إلى الجماعة إلى الوطن. “أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم” (متى ٥: ٤٤)، ليست توصية أخلاقية بل ظلال الصليب في حياتنا اليومية، وشرط المشاركة في مجد القيامة.
‏‎التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يؤكّد أنّ القداسة تُبنى في حياة النعمة والجهاد الروحي والتجاوب مع الروح القدس الذي يشكّل فينا صورة المسيح.
‏‎العالم لا ينقصه خطاب، بل ينقصه شهود نور، أشخاص يتحول حضورهم إلى أنفاس سلام، وشفاعاتهم إلى دواء جراح البشر.
‏‎لذلك، اجعل واقعك اليومي، حيث أنت، محبسة روحية ومنسك تقوى، واشحن ذاتك بالصلاة والإنجيل ليصير قلبك شعلة محبة تُبشّر بالأفعال لا بالكلام. الرب الذي “في البدء كان الكلمة” (يوحنا ١: ١) يحكم بالرأفة والشفاء والغفران، ويقدّم ذاته قربانًا من أجل خلاص البشرية.
‏‎أن تتبع المسيح يعني أن تبتعد عن ضجيج الخصومات، وتمتنع عن الثرثرة والشماتة، وتدخل صمتًا يعجن قلبك بالصلاة، فتخرج إلى العالم رسولًا للسلام، تشبه القديسين الذين سبقونا، وتلتحق بجوق السماء الذي يرنّم: “الرب نوري وخلاصي” (مزمور ٢٧).
‏‎في عيد جميع القديسين، تذكّر أنّ الطريق إلى السماء يبدأ من هنا، من تفاصيل يومك، من الشخص الذي يصعب عليك أن تحبه، من خصمك الذي يتحوّل بصلاتك إلى أخ، من قلبك الذي يتطهّر كلما سلّم ضعفه للنعمة. القداسة ليست قصة بعيدة، بل مسيرة صلاة، ومصالحة، وثقة بذاك الذي “لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة” (٢ بطرس ٣: ٩).
‏‎
صلّ لمن يتعبك، لأن الرب يصنع من جرحك بابًا قداسة،
ومن صبرك أنشودة نعمة،
‏‎ومن محبتك الناقصة، طريقًا نحو الجوق الذي نحتفل به اليوم في مجد السماء.

اترك تعليقاً