تفنّد الوثائق التاريخية وشهادات المؤرخين والرحّالة الغربيين مزاعم الباحث التلمودي جوزيف بريستلي حول “جدب فلسطين وتخلفها”، إذ تؤكد هذه المصادر الأهمية الاقتصادية الكبرى لفلسطين عبر العصور، ودورها الحيوي في تغذية أوروبا وتزويدها بالمواد الخام، خاصة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.
يشير الراهب الفرنسي فرانشسكو سوريانو، الذي عاش لفترة طويلة في فلسطين، إلى غنى الأرض المقدسة بالمنتجات الزراعية والصناعية، فيذكر أنها كانت تنتج قصب السكر والحمضيات والتفاح، إلى جانب كميات وافرة من القطن وزيت السيرج، الذي وصفه بأنه “أفضل من زيت الزيتون بل حتى من السمن عند الطهي”، مضيفًا أن الإنتاج الفلسطيني كان يكفي لتزويد سوريا ومصر معًا.
وفي السياق ذاته، يشير المؤرخ الاقتصادي الفرنسي بول ماسون إلى أن شحنات القمح التي كانت تصل من مرافئ الشرق، وخصوصًا من ميناء عكا، ساهمت في إنقاذ جنوب فرنسا من المجاعات في مناسبات متعددة. وينقل ماسون عن الرحالة فرمانيل مشهده عام 1630، حين أحصى وجود 32 سفينة تنتظر تحميل القمح الفلسطيني من مرفأ عكا، ما يدل على حجم الطلب الأوروبي على هذا المورد الحيوي.
وقد لعب القمح الفلسطيني الصلب دورًا مهمًا في تزويد صناعة المعكرونة الإيطالية، وظل مطلوبًا بشدة حتى القرن التاسع عشر، رغم انخفاض سعر القمح الروسي المنافس.
أما في ما يتعلق بالقطن، فقد شهدت صادراته إلى أوروبا نموًا ملحوظًا منذ منتصف القرن السادس عشر، مدعومة بالامتيازات الأجنبية التي منحها السلطان العثماني سليمان القانوني لرعايا الدول الأوروبية، بدءًا من فرنسا سنة 1553. وقد ساهم مرفأ عكا بفعالية في تصدير القطن الفلسطيني، الذي لعب دورًا محوريًا في دعم الثورة الصناعية الأوروبية، خاصة في عقودها التأسيسية أواخر القرن الثامن عشر.
تدل هذه الشهادات بوضوح على أنّ فلسطين لم تكن هامشًا اقتصاديًا أو أرضًا جرداء كما صوّرها بعض الكتّاب الغربيين المتحيزين، بل كانت لاعبًا مهمًا في منظومة التجارة المتوسطية والعالمية، ومصدرًا رئيسًا للغذاء والخامات التي ساعدت في استقرار المجتمعات الأوروبية، بل وأسهمت في تحوّلاتها الصناعية الكبرى.
