“ما لكَ ها هنا يا إيليّا؟”

You are currently viewing “ما لكَ ها هنا يا إيليّا؟”
 نقولا أبومراد-
اسمُه يعني “إلهي هو الربّ”. أصله من “جلعاد” (تلّ الرؤية أو الشهادة) في عبر الأردنّ، أي أنّه من خارج حدود مملكة إسرائيل الخاطئة التي كان هو لسانًا سليطًا على ملوكها والشعب. كان حرًّا من سيادة الملوك الذين واجههم. لاحقًا، يقول كتاب الملوك الأوّل، إنّ ملوك إسرائيل ويهوذا حاولوا احتلال جلعاد وأعاليها، إلاّ أنّ الربّ أفشلهم وانتهى بهم الأمر مقتولين. وكأنّ الأرض التي منها نبيّ الأنبياء، وفي رمزيّتها أنّها مكان الشهادة، عصيّة على أن تخضع لمَن هجرَ الربّ ووصاياه وراح يعبد أهواء السلطة ويتمرّد على الله في المظالم.
قصّته (1ملوك 17 – 2ملوك 2، 11 ) فيها تعرّجات كثيرة. في غيرته التي غارها للربّ مطارحُ يتكشّف فيها وجه إلهه كما هو، ومطارح أبانَ فيها إيليّا الله كما يشاؤه هو أن يكون، وما كان بالضرورة مُحِقًّا. في هذا جدل بين إلهٍ يفعل كما يحلو له هو، وإله يفعل كما يحلو للناس أن يفعل. في قراءتي أنّ قصّة إيليّا ترسِم خارطة طريق لمَن شاء أن ينادي باسم الربّ، وأنّ المسعى فيها أن يتعلّم المتكلّم بكلام الربّ كيف يكون أمينًا للكلمة، ولو انتهى به الأمرُ منبوذًا ومغلوبًا.
إذا تأمّلنا في القصّة القصيرة نسبيًّا، ولكنّها في صميم البرنامج التأليفيّ لأسفار الملوك، نكتشف حركيّة مكانيّة ترافق مسيرة إيليّا في غاية الأهمّية. تبدأ قصّته خارج أرض إسرائيل، في عبر الأردنّ، وفي عبر الأردنّ أيضًا تنتهي. في بدايتها مكوث طويل شرقَ الأردنّ، ثمّ إقامة طويلة في صرفة صيدون على ساحل المتوسّط، قبل أن يأمره الربّ بأن يذهب إلى السامرة، عاصمة مملكة إسرائيل، ليواجه ملكها آحاب وزوجته إيزابيل بسبب عبادتهما البعل.
وبعد السامرة يمضي إيليّا في مسيرة طويلة مكانيًّا ومقتضبة روائيّا من السامرة إلى جبل حوريب في برّية سيناء، حيث ظهر الربّ لموسى في مشهد عباديّ متكامل، تتصدّر فيه كلمتُه في غياب البنى الانسانيّة، إلاّ السامعون كلمته، والمحتفون بظهوره المحيي، بعد تحرّر من أهواء ملك ظالم في مصر.
يعود إيليّا من حوريب ليقيم في برّية دمشق، ومن برّية دمشق يطلّ على السامرة سريعًا ليعلن سقوط آحاب الملك وزوجته بسبب الظلم، ثمّ يغادرُ عائدًا تديريجيًّا إلى حيث دعاه الربّ أوّلاً، إلى جهة تلّ الشهادة من الأردنّ، ومن هناك يستعيد الربّ إليه، في إيليّا، كلمتَه التي خرجت منه، وفعلت فعلها، وعادت إليه، تمامًا كما تنهمر قطرات المطر من السماء، وتروي الأرض، تفعل فعلها في إحيائها، وتعود إلى منتهى أمرها في البحر الذي منه أخذت (إشعياء 55، 11).
في هذه المسيرة نواحٍ معنويّة عديدة، أهمّها أنّ إيليّا، يستعيدُ فيها محطّات الطريق عينِه الذي سيّر فيه الربّ بني إسرائيل منذ خروجهم من مصر. فهؤلاء أعالهم في البرّية، خارج الأرض التي سوف تتحوّل في ما بعد إلى مملكة إسرائيل. أعالهم بالماء والطعام، كما أعال إيليّا مقابلَ الأردنّ في الشرق، وعلى الساحل في صرفة صيدا. ومثلما كانت كلمتُه إليهم بواسطة موسى في البرّية، خارج أرض المملكة، هكذا كانت كلمته إلى إيليّا أيضًا خارج المملكة. وما التوازي، في مواضع عدّة، سواء في قصّة إيليّا أو في قصّة الخروج، بين الطعام الذي يعطيه الربّ وبين كلمته، سوى تأكيد على أنّ الحياة إنّما تأتي من كلمة الربّ، فهي الحيّة والمحيية. بها أقام إيليّا ابن الأرملة التي أطعمته بأمر الربّ، فكان أن حيا هو بزيتها وخبزها، وحيت هي ونسلها بقوّة الربّ.
غير أنّ التشابه بين مسيرتي إسرائيل وإيليّا، لا يجب أن يظلّل اختلافًا جوهريًّا بينهما، وهو أنّ هؤلاء الذين خرجوا من مصرَ وعبّرهم الربّ البحر الأحمر منقذًا إيّاهم من ملك ظالم، رغم أنّه أعطاهم كلمته المحرّرة إيّاهم من هذا الظلم ومثله إن هم اتّبعوها، لم يدخلوا الأرض الموعود بها لابراهيم إلاّ لينشئوا مملكة أظلم من التي خرجوا منها، ويقيموا عليهم ملوكًا اختطفوهم بعيدًا عن الربّ حتّى إنّ فرعونَ نفسه بدا، في الرواية، أقلّ منهم شرًّا.
أمّا إيليّا، فحين دخل الأرض، عابرًا نهر الأردنّ، فإنّما دخل ليكسر ظلم الملك، ويهدم تمرّده على الربّ. دخل ليكسر المملكة بما تمثّله من كبرياء. هذا توجّه سفر الملوك من بدايته وحتّى النهاية. وفي إيليّا، يرسم الكتاب المقدّس، طريقًا من مصرَ إلى الأرض تكون المحطّة الأساسيّة فيها لقيا وجه الربّ في حوريب، في سيناء، في برّية الربّ، حيث من الموت تأتي الحياة، ومن غياب سلطان الناس يتبدّى سلطان الربّ المحيي.
لنفهم هذا، لا بدّ من أن ندرك أنّ القصّة في أسفار الملوك، منذ أن اعتلى داود العرش في أورشليم، تتّجه نحو سقوط المملكة في ما يسمّى السبي البابليّ، وفي مقابل هذه القصّة، تثبت كلمة الربّ وتعود إلى قوّتها، إلى أصلها، في إيليّا، أي إلى حيث الربّ نطقها في البدء، في البرّية، أي خارج سلطان الناس. هكذا، وإن حصل السبي، لا تكون كلمة الربّ التي وعدت بالأرض قد اندثرت، بل تكون قد ثبتت في قوّتها، لأنّ الكلمة ليست في أن تنشئ مملكة ظالمة كسائر ممالك الناس، بل أن تقوم على الأرض لله “مملكة كهنة”، أي أحبّة له سامعين كلمة الحقّ منه، ومرسلينها على الأرض محبّة وسلامًا ونورًا وحقًّا وعدلاً.
تُسبى مملكة إسرائيل، وتهدم السامرة عاصمتها. تلك المدينة التي اسمها يفيد حفظَ شريعة الربّ (شومرون في العبريّة من جذر “شمار” أي حفظ الشريعة)، خانت كلمة الرب. غير أنّ إيليّا الذي تجاوز خوفَه ليقولها، ما تردّد لحظة ولو على حساب حياته، فقالها وما مات، بل رفعه الربّ إليه، وبه استعاد قوّة كلمته الآتية منه والفاعلة فعلها على أكمل وجه.
غير أنّ ايليّا، وإن تماهى نوعًا ما مع الكلمة الإلهيّة، فصارها وصارته، إلاّ أنّ الربّ شاء به أن يُصلِح مَن سيحملون الكلمة بعده. أخطأ إيليّا حين مضى إلى السامرة ليوبّخ الملك. ما اكتفى بأن يبيّن أنّ الربّ هو الإله الحقيقيّ، إلاّ أنّه تصرّف من عنديّاته، فذبح كهنة البعل. أستهاب فعلته هذه. مضى ليتخفّى.
جذبه الربّ إليه إلى حوريب، وهناك، أفهمه لماذا هو هنا، “ما لك ها هنا يا إيليّا؟ “، أي لماذا أنت قائل كلمتي، ولماذا أعلنتها لك. أراه الربّ عاصفة ولم يكن فيها، وأحدث زلزلة ولم يكن فيها، وبعث نارًا ولم يكن فيها، بل كان في النسيم الخفيف الذي عبر. النسيم الخفيف يحمل قوّة الكلمة، لا يخفيها. ولا تحتاج قوّة الكلمة إلى زلزلة وعاصفة ونار. فهم إيليّا أنّه كان يكفي أن يقول إنّ الخاطئ أخطأ. ما كان القتل ضرورة، إنّما هو جرم اقترفه. فهم إيليّا أنّ الوداعة هي التي تحمل كلمة الله القويّة، الجبّارة، كاسرة كبرياء المستكبرين. وحين أدرك هذا، أخذه ربّه في مسيرة إليه محمولاً على مركبة من نار إلى حيث ينتصب دومًا أمام الربّ.
في العشرين من تمّوز، نعيّد لكلمة الربّ في إيليّا، للوداعة التي تعلّمها بعد سقوط. وهي تحملنا إلى السادس من آب، حيث سيقف إيليّا مع موسى إلى جانب الربّ المتجلّي، ليتحدّثان معه على موته وقيامته. ومن السادس من آب إلى عيد الصليب في الخامس عشر من أيلول، نسير، كما موسى وإيليّا، في أربعينيّة نحو التجلّي الحقيقيّ، تحملنا إلى الصليب. هناك، على الصليب، في موت المعلّم، نشهد لقيام الحقّ في كلمة الربّ المحبّة حتّى الموت. وفي الوديع الذي مات على الصليب نشهد لانتصار حمل الله على وحشيّة الانسان.

اترك تعليقاً