من هناك، من طرف اليابسة حيث تعانق بيروت بحرها الأزرق، تمتدّ المنارة شامخة، تطلّ على الزمن كحارسة لذاكرة المدينة. كانت المباني تتراصف بخجل بين العتيق والحديث، بعضها ببيوت حجرية حمراء السقوف ونوافذ خشبية، وأخرى بدأت تخطو أولى خطوات الحداثة، تتسلّل العمارات الإسمنتية بهندستها الجديدة بين الأزقة القديمة.
النادي الرياضي هناك، صرح شعبي نابض، تعلو منه أصوات الصافرات وضجيج المباريات، كأنّه قلبٌ يدقّ بإيقاع الحياة. وعلى الطريق المحاذية للبحر، تمضي سيارات “الأوستن” و”الفيات 600″ ببطء، كأنها لا تريد مفارقة مشهد الغروب الذهبي.
الناس تمشي بثقة وخفّة، رجالٌ بقمصان بيضاء وسراويل مضغوطة، ونساء بفساتين واسعة الأكمام، يحملن حقائب جلدية ويبتسمن للنسيم البحري. الأطفال يركضون حول عربات البوظة وأصوات الباعة تتعالى: “غزل البنات! فول مدمّس!”، تختلط الروائح بين ملح البحر وعبق الزمن الجميل.
هكذا كانت المنارة في ستينياتها… بيروت التي تمشي بخطى واثقة نحو الغد، لكنها لا تنسى أن تترك قلبها معلقًا على شرفات الماضي.