من يغلق أذنه عن صراخ المسكين

You are currently viewing من يغلق أذنه عن صراخ المسكين
كثيرون يسمعون، قلة يصغون. لأنّ السمع فعل الحواس، أمّا الإصغاء فهو فعل القلب.
وكأنّ الفرق بين السمع والإصغاء كالفرق بين المرور والكشف، بين المعلومة والمعاينة، بين الصوت الخارجي والصوت الذي يُزلزل أعماق الكيان.
السمع متاح للجميع، لكن الإصغاء لا يتعلّمه إلا من اختبر الجراح، ومن تمرّن على المحبة. فالإصغاء لا يُختَزل بفتح الأذنين، بل هو انحناء النفس أمام حضور الله في الآخر، كما انحنى الرب ذاته ليسمع صراخ شعبه.
في كل صرخةٍ حولنا فرصةٌ لاكتساب نعمة، وفي كل وجعٍ قريب نداءٌ من السماء. غير أنّ الضجيج الذي يغمرنا يجعلنا نحيا على السطح: نسمع دون أن نصغي، نمرّ دون أن نرى.
وحين تتبلّد الأحاسيس الروحية، لا يعود صوت الله يُلتقط، لا لأنه سكت، بل لأننا ما عدنا نعرف كيف نُصغي.
من يغلق أذنه عن صرخة أخيه، إنما يغلق قلبه عن الروح.
لأن الصوت الخارج من قلب مكسور لا يصعد وحده، بل يرفعه الله إليه شهادةً على البشر.
والإنسان الذي يكتفي بالسمع دون الإصغاء، يُدخِل ذاته في ظلمة الجهل الروحي، حيث لا تعود الصلوات تُدرَك، ولا التضرّعات تُسمَع، لأنّ القلب ما عاد يتجاوب مع قلب الله.
الإصغاء هو فعل إلهي، لأنّ الرب نفسه إصغاءٌ دائمٌ إلى الإنسان.
والإنسان الذي يتعامى عن وجع قريبه يُطفئ صورة الله في داخله، ويُغلق المساحة التي بها يتكلّم الروح. فإن كان “كلّ عضو يتألّم، فجميع الأعضاء تتألّم معه” (1 قورنتس 12: 26)،
فإنّ عدم الإصغاء هو تمزيق لهذا الجسد، وقطعٌ لصوت الله في الداخل.
يعلّمنا القديس يوحنا الذهبيّ الفم أن الفقراء يُوجَدون “لكي تكون بفقرهم كفارة لخطايانا، فالإنسان الكريم هو ثمين جدًا”.
فحين نُصغي إلى المظلوم لا نُمارس لفتة إنسانية عابرة،
بل نحقق اشتراكًا عميقًا في سرّ الرحمة الإلهية.
لأنّ الإصغاء ليس مجرّد طريقٍ إلى الفعل، بل هو الفعل نفسه حين يُمارَس بصدق واتضاع، لأنّ الإصغاء هو أولى علامات الحب.
الله لا يدين من لا يصغي، لكنه يكشف له عُريه.
فعدم الإصغاء ليس فقط قسوة، بل تمرّد على صورة الله في الإنسان.
ويشرح غريغوريوس الكبير أنّ منح الفقير حقه ليس تفضُّلًا بل “وفاء بدين العدالة”، وأنّ من يحتفظ بما أُعطي له، إنّما يُشبه السارق.
فالقلب الذي لا يصغي، يختزن لنفسه ما ليس له،
ويصير خائنًا لعدالة الله الرحيمة.
إنّ من لا يُشرك قلبه في وجع الآخر، لا يقدر أن يفتح فمه في صلاة صادقة.
لأنّ الصلاة ليست كلمات تُقال، بل اشتراك في جراح المحبة، واتّحاد في الروح مع الباكين، كما قال بولس الرسول:
“لأعرفه وقوّة قيامته وشركة آلامه، متشبّهًا بموته” (فيلبي 3: 10).
وإذا صلّينا ونحن منغلقون على أنانيتنا، فصوتنا لا يتجاوز جدران كبريائنا، ولا يصل إلى قلب الآب.
لأنّ الصلاة الحقّة تبدأ حين يصغي الإنسان لمن حوله، قبل أن يطلب من الله أن يصغي له.
الكتاب المقدّس لا يخلط بين السمع والإصغاء،
ويُميّز بين من “يسمعون” ومن “يفهمون”. ولذلك يقول:
“من يسُدُّ أُذنَهُ عن صُراخِ المسكينِ، فهو أيضًا يَصرُخُ ولا يُستجابُ لهُ” (أمثال 21: 13).
فالذي لا يُصغي، يُقصي ذاته من دائرة الإصغاء الإلهي.
ليس لأنّ الله لا يرحم، بل لأنّ الإنسان لم يعرف أن يدخل في منطق الرحمة.
يصف القديس يوحنا الذهبيّ الفم العطاء الحقيقي بأنه ليس مجرد صدقة، بل “رحمة تصدر من العطوف”،
ويشدّد بأنّنا نحتاج إلى هذه الرحمة “خاصّة في موسم البرد القارس”، حين يصبح العالم أكثر جفافًا، والنفوس أكثر انعزالًا، والقلوب أقل تجاوبًا.
والرحمة هنا لا تُولد من الشفقة العابرة، بل من الإصغاء العميق الذي يرى في الآخر تجلّي المسيح.
كلّ صرخة مظلوم هي امتحان للقلوب.
ليست النداءات التي نسمعها صدفة، بل رسائل تُرسَل إلينا كي نتدرّب على الإصغاء، ونتعلّم لغة السماء.
والرحيم هو الذي تعلّم أن يسمع كما يسمع الله، أي بعين القلب وحنان الروح.
كما صرّح القديس يوحنا الذهبيّ الفم: “إذا رأيت فقيرًا، أظهر له الرحمة. إنك إذا صنعت هذا، تكون قد وجدت المسيح بينكم”.
فمن يصغي، لا يسمع فقط صوت الفقير، بل يتجاوب مع الحضور الإلهي المتخفّي فيه.
الإصغاء موهبةٌ لا تُكتسب بالخبرة، بل تُوهَب لمن يتطهّر من ذاته.
فالقلب الممتلئ بنفسه لا يسمع إلا صوته.
أما القلب الذي تفرّغ ليحبّ، فيصير كمرآة للرحمة، يسمع كما يسمع الله، بعين القلب وحنان الروح.
هكذا نفهم لماذا لا يُدين الرب من لا يسمع، لكنه يُنذر من لا يُصغي.
لأنّ الذي لا يصغي، يرفض أن يدخل في شركة مع الله المتجسّد في المظلوم.
فالرب لا يطلب آذانًا مفتوحة، بل قلوبًا منحنية.
وعند نهاية الزمن، لن يُوزن الإنسان بحسب ما سمع، بل بحسب ما أصغى، وبحسب ما فعله حين سمع.
“فطوبى لأذانكم لأنها تسمع” (متى 13: 16)، أي لأنها تصغي، وتتجاوب، وتلد الرحمة من أعماقها.
الإصغاء، في النهاية، ليس مجرّد استجابة للإنسان، بل عبور إلى قلب الله.
ومن أصغى بحق، دخل في سرّ الخلاص.

اترك تعليقاً