امتدّت فعاليات مهرجان الفريكه الثقافي 2025 على مدار أربعة أيام، من 2 حتى 5 تشرين الأوّل، في بيت الحرير في قرية الفريكه المتنيّة، من تنظيم بيت الفريكه للثقافة والفنون ودار أنانا. وقد شهد المهرجان حضورًا واسعًا من عشّاق الثقافة والفنانين والأكاديميين، وتميّز بتناغم لافت بين الشعر، الحفلات الموسيقيّة، العروض المسرحيّة، الندوات الحواريّة، والمعارض المصاحبة، ما جعله تجربة ثقافيّة متكاملة تجمع بين الأصالة والحداثة.
اليوم الأوّل: ليلة الشعر المحكي وألوان مصطفى فرّوخ
افتُتح المهرجان بأمسية شعريّة تحت عنوان:
“الكلمة ساقطه… الشعر بيرفعها”
وهو قولٌ لأب المسرح اللبناني المخرج الراحل منير أبو دبس، حيث قدّم أبرز شعراء المحكيّة قصائد وجدانيّة راقية، وهم: الأستاذ حبيب يونس الذي شكر الحضور على إصغائه المتميّز وتفاعله، والدكتور جورج زكي الحاج، والدكتور الياس زغيب، والأستاذ يامن صعب، وذلك بحضور الأستاذ هنري زغيب والأستاذ مكرم غصوب.
تلا الأمسية حلقة حواريّة بعنوان:
“حين سكن فرّوخ الفريكه وسكنته”
تناولت سيرة الرسّام اللبناني الرائد مصطفى فرّوخ. أدار اللقاء الباحث جوزيف بشاره، مستضيفًا نجل الرسام، السيّد هاني مصطفى فرّوخ، الذي ناقش محطات نشأة والده، تعلّمه فنّ الرسم، أبرز أعماله، ودوره في الحركة الثقافيّة اللبنانيّة، إلى جانب علاقته العميقة ببلدة الفريكه.
وقد تضمّنت الندوة عرضًا لفيلم وثائقي من إعداد بشاره صُوِّر في أنحاء الفريكه والجوار، سرد فيه هاني فرّوخ قصصًا عن لوحات والده وأسرارها، متوقّفًا عند ظروف إقامة العائلة في البلدة إبان الحرب العالميّة الثانية.
اليوم الثاني: الموسيقى الكلاسيكيّة وقصّة مي زياده
أحيا نادي الموسيقى الكلاسيكيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت حفلًا راقيًا قدّم خلاله باقة من المقطوعات الكلاسيكيّة العالميّة. سادت الأمسية أجواء من الصفاء الداخلي والسمو الفني، وتفاعل الجمهور مع أداء العازفين الذين أكّدوا أن الموسيقى الكلاسيكيّة لغة الفكر العميق كما الوجدان، وهي قادرة على جمع الناس حول الجمال والفن الراقي.
استُكملت فعاليات اليوم بحلقة حواريّة تحت عنوان:
“علاقة مي زياده بالفريكه” استُهلّت بعرض فيلم وثائقي من إعداد الباحث جوزف بشاره، تناول حياة الأديبة مي زياده، وعلاقتها بالفيلسوف أمين الريحاني وبلدته الفريكه. استعرض الفيلم الظروف القاسية التي عاشتها مي بعد اتهامها بالجنون طمعًا في ثروتها، محلّلًا القضية من خلفيّة قانونيّة.
وقد بيّن الفيلم دور الريحاني في إخراجها من العصفوريّة، وتأمين إقامة لها قربه في الفريكه كي تتعافى من “أمراض الآخرين النفسيّة”.
بعد العرض، حلّ الدكتور أمين ألبرت الريحاني والباحث والناشر سليمان بختي ضيفيّ بشاره في نقاش موسّع، كشف خلاله بختي عن قصة حبّ غير معروفة جمعت بين مي زياده وأنطون الجميّل.
اليوم الثالث: المسرح الفلسفي ومنير ابو دبس
شهد مسرح منير أبو دبس في بيت الحرير عرضًا مسرحيًا بعنوان: “ضجيج في أعماقي وضباب” جمعت المشهديّة عناصر متنوّعة من الشعر الفلسفي، الرقص التعبيري، الغناء الأوبرالي والموسيقى الحيّة، وشارك فيها:
الشاعر مكرم غصوب (نص شعري)
الفنان بيار جعجع (رقص تعبيري)
المغنيّة تارا المعلوف (غناء أوبرالي)
الموسيقي طارق بشاشه (إخراج وعزف على الكلارينيت)
تميّز العرض بالعمق الفكري والأداء الحيّ، ما جعل الجمهور، ومن ضمنه مجموعة من الصمّ، يتفاعل بشكل كبير مع العمل. وقد نجح الراقص الأصمّ بيار جعجع في التعبير بلغة الجسد عن قصة الشاعر الذي، في لحظة موته، يجد نفسه في حضرة روحه، الحياة والوجود، ويبدأ رحلة تساؤل عن المعنى الحقيقي للحياة.
بعد المسرحيّة، تمّ عرض فيلم وثائقي عن منير أبو دبس بعنوان “كاهن الغرابة” تحدّث فيه عن تجربته المسرحية الفريدة.
تبع الفيلم ندوة حواريّة حول فلسفة منير أبو دبس المسرحيّة، أدارها الباحث جوزيف بشاره، واستضاف فيها كلًّا من تلميذ أبو دبس، الممثّل طارق بشاشه، والمفكّر مكرم غصوب، صديق المخرج الراحل.
واختُتم اليوم الثالث بتوقيع كتاب جديد للراحل أبو دبس، بعنوان L’acteur et le vide قدّمه ابنه جيل أبو دبس.
اليوم الرابع: ليلة التصوّف
في ختام المهرجان، قدّمت فرقة تجلّي الصوفيّة أمسية روحانيّة بعنوان “ابتغاء”، امتزجت فيها الألحان الشرقيّة بالإنشاد الصوفي، ما خلق تجربة تأمّلية عميقة، عكست الجمال الداخلي والصفاء الروحي. تفاعل الجمهور مع الأجواء الغنائيّة والانفعالات الموسيقيّة التي مست مشاعرهم الإنسانية.
تلت الأمسية حلقة حواريّة بعنوان: “الصوفيّة بين الغنوصيّة والوجوديّة”
ناقشت الجذور الروحيّة والفلسفيّة للصوفيّة، وتأثيرها على الأدب، الموسيقى، واللغة، مع التركيز على دورها في تعزيز التسامح والوعي الإنساني.
شارك في الندوة:
الشاعر الكبير هاني نديم، متحدثًا عن تجربته الشخصيّة مع التصوّف ومفهوم العرفان
الفنان طارق بشاشه، موضحًا خصوصيّة الفن الصوفي عن غيره من الفنون
المفكّر مكرم غصوب، الذي عرض العلاقة بين الصوفيّة، الغنوصيّة، والوجوديّة المشرقيّة
وقد أدار الحوار الباحث جوزيف بشاره.
المعارض المصاحبة: الكتاب والفنون التشكيليّة
رافقت المهرجان طيلة أيامه معارض ثقافيّة وفنيّة موازية:
معرض الكتاب: عرض مجموعة متنوّعة من الإصدارات الأدبيّة والفكريّة، وأتاح للجمهور لقاء المؤلفين والحصول على توقيعاتهم، والمشاركة في نقاشات ثقافيّة. شارك فيه كل من: منتدى شاعر الكورة الخضراء، دار نلسن، دار أنانا، ومكتبة الملّاح.
معرض الفنون التشكيليّة: ضمّ لوحات لفنانين لبنانيين عالمين وشباب مبدعين، تنوّعت بين الواقعيّة، التجريديّة، الانطباعيّة والسرياليّة، ما أتاح للحضور فرصة استكشاف اتجاهات فنيّة مختلفة والتفاعل المباشر مع الفنانين.
شكّل مهرجان الفريكه الثقافي 2025 حدثًا استثنائيًا جمع بين الشعر، الموسيقى، المسرح، الفلسفة، الأدب، والفنون التشكيليّة. وقد عكس التزام منظّميه بتوفير فضاءات للتعبير الفني والتجديد الثقافي، مؤكّدًا أنّ الثقافة ليست ترفًا بل حاجة إنسانيّة أساسيّة.
لقد أثبت المهرجان أنّ التقاء الفكر بالفن، والروح بالمجتمع، يمكن أن يصنع تجربة إنسانيّة راقية، تجعل من كلّ يوم فرصة لاكتشاف الجمال، والوعي، والإبداع في قلب هذا الوطن والارتقاء بالإنسان والمجتمع.
