وُلد الأستاذ يحيى، نجل المرحوم أسعد بن محمد السعودي، في مدينة القدس عام 1905، حيث تنفّس أول أنفاسه بين أزقتها العتيقة، وارتشف من هوائها المجبول بعبق التاريخ وأصداء الأذان والتراتيل. تلقّى دروسه الابتدائية في “مدرسة روضة المعارف الأهلية”، غير أن القدر سرعان ما خطف والده وهو بعدُ في العاشرة من عمره، فتولّى عمّه الحاج موسى السعودي مهمة رعايته وتثقيفه، وكان له أبًا ومعلمًا ومرشدًا.
تابع يحيى دراسته حتى المرحلة الثانوية في المدارس الحكومية، غير أن الظروف دفعته إلى ترك المدرسة والانخراط في ميدان الأعمال الحرة، إلا أن قلبه ظل معلّقًا بعالم الفن، الذي وجده منذ صغره موئل روحه ومهوى فؤاده.
كان صوته ندياً وحضوره الآسر جاذباً، فقد ترأس فرقة المنشدين في مدرسته، وأدّى الأدوار الرئيسية في الحفلات الختامية السنوية، فبان نبوغه الفني مبكراً. لم يتلقَّ تعليماً موسيقيًا تقليديًا، بل علّم نفسه العزف على آلة العود، مكابدًا صعوبات الطريق الطويلة، دون أستاذ يرشده أو منهج يهديه، لكنه ثابر حتى أصبح عازفًا متمكّنًا ومنشدًا له صيته ومقامه.
فيما بعد، تتلمذ على يد الموسيقي يوسف البتروني لثلاثة أشهر، درس خلالها علم النوطة، وقد سهل عليه ذلك لامتلاكه ذاكرة موسيقية تحفظ الموشحات وأوزانها بدقة. بقي يحيى السعودي هاويًا شغوفًا حتى افتتاح دار الإذاعة الفلسطينية في القدس سنة 1936، حيث كان من مؤسسيها، وتولّى قيادة الفرقة الموسيقية، وظل يشرف على أعمالها الفنية مدة اثنتي عشرة سنة، خرج فيها نخبة من الفنانين الذين أصبحوا أعلامًا في الساحة الفنية الفلسطينية والعربية.
وقعت نكبة فلسطين، وانطفأت أنوار المدن، فكان السعودي من بين اللاجئين الذين غادروا قسرًا، حاملاً فنه وحنينه. نزل في دمشق سنة كاملة دون عمل، مترقبًا عودة قريبة إلى وطنه، إلا أن الغربة طالت، والمصير تأخر، فاختار أن يبذر فنه في أرض الشام.
عُيّن مراقبًا موسيقيًا في إذاعة دمشق، ثم أوكلت إليه وزارة المعارف إدارة المعهد الموسيقي الشرقي عام 1950، فكان له شرف تأسيس المنهج الأول لتعليم النوتة والمقامات والإيقاعات الشرقية، فنهض بالمعهد وأسس قاعدة موسيقية علمية خرّجت أسماء بارزة كعبد السلام سفر، وزهير وعدنان منيني، وعدنان أبو الشامات، وأمين الخياط وغيرهم من رواد الموسيقى السورية.
تميّز صوت الأستاذ يحيى السعودي بالقوة والاتساع، وكان بإمكانه أداء الطبقات العالية من دون مؤازرة، وأبدع في تلحين أربعة أدوار من مقامات البيات والسيكاه والحجاز والرست، أبرزها “دور السيكاه” ومطلعه: “أول ما شفتك حبيتك”. وقد سجّلت هذه الأدوار محطة الشرق الأدنى، فيما احتفظت الإذاعة السورية بموشحاته التي صاغها بإتقان من مقام الحجاز كار كردي.
من موشحاته:
-
يا ظالمي حقًا يكفيك ما ألقاه (وزن سماعي ثقيل)
-
سلّم الله على من جاءنا منه السلام (وزن داور هندي – شعر البهاء زهير)
-
خمر العيون أديري فالكأس كانت حراما (سماعي دارج – شعر نزار التغلبي)
وفي مقام البستنكار، أبدع:
-
أنشدي يا صبا (من نظم إبراهيم طوقان – سماعي ثقيل)
-
ليت من طير نرمي (أندلسي – داور هندي)
-
بالذي ألهم تعذيبي (شعر عبد المحسن الصوري – سماعي دارج)
لحّن قصائد وطقاطيق وأناشيد وطنية ودينية، منها:
-
نشيد الحجيج (بلاد الحجاز) – شعر إبراهيم طوقان
-
نشيد “فلسطين يا ابنة المجد” – شعر يوسف الخطيب، أداء الفنانة ماري جبران
توفي الأستاذ يحيى السعودي عام 1966 في العاصمة الأردنية عمّان، ورافق جثمانه شقيقاه زكريا وعِمران، إلى جانب صديقه ورفيق دربه والدك الكريم، حيث وُوري الثرى في القدس الشريف، المدينة التي أحبّها وعاش لها.