10 أعوام على رحيل أنسي الحاج

كتبه الأديب والشاعر والناقد والمُترجم سمير اليوسف
 
هناك مستوى عالٍ من المصداقية في أعمال وسيرة الشاعر اللبناني أنسي الحاج بما يجيز اعتباره المرجع الأحق في قراءة بداية مغامرة قصيدة الحداثة العربية.
كان الحاج أول من أصدر كتاباً كاملاً بالعربية ينتمي إلى قصيدة النثر (مجموعة “لن” 1960). في نصه من الثراء ما يحول دون الإستهانة بأثر هذه القصيدة ولكنه في الوقت نفسه يُفصح عن حدود لا تسوغ التعظيم من أهمية ما نتج عنها من وعيّ جماليّ أو سياسي.
إذا كان نزار قباني قد هبط بلغة القصيدة العربية من علياء البلاغة الأدبية إلى لغة الفرد في الحياة اليومية فإن الحاج، وخلافاً لقباني الذي زودها (القصيدة) بموسيقى عالية، مضى نحو تجريدها من الموسيقى بل والصوت أيضاً. وخلافاً لغيره من شعراء قصيدة الحداثة فإنه لم يسع إلى التواري خلف ضباب فكري الإدعاء يزعم العمق والتعقيد.
الحاج كان حداثياً بالمعنى الأصدق للكلمة، أي بما للحداثة وبما عليها. النص عنده لم يدّعِ، بل ولم يزعم الطموح، لأن يكون البديل للحياة او أن يقدّم صورة شاملة للحياة. كتابة الحاج هي بمثابة تعبيرٌ فردي هامشي لا يُلغي حقيقة العالم الواقعي بقدر ما يؤكد على ما يعتمله من انقطاع وانشطار وفي كافة الأحوال انعدام تماسك لا يُجيز النظرة الشمولية المتعالية. ولا الصوت الفردي للشاعر يزعم بأنه ناطق بما هو أبعد مما يحسّ به الفرد المعزول في واقع كهذا. لا غرابة انه حينما عاد الحاج الى الكتابة الأدبية، بعد انقطاع دام قرابة عقد ونصف من الأعوام، توسلّ النص الأقصر الذي يجمع ما بين الشذرة الفلسفية وعبارة قصيدة النثر.
هناك من قُراء الشعر في العالم العربي من لم يسمع باسم أنسي الحاج. وهذا أمر مثير للأسى والخجل. ولكنه أيضاً النتيجة المتوقعة للمصداقية التي بادرنا بذكرها في مطلع هذه العجالة. النص الذي كتبه الحاج ليس منبرياً هجومياً ولا يسعى إلى إثارة انتباه القارئ بواسطة مزاعم وادعاءات جماليّة فارغة. العمق في المعنى عنده ليس مبرراً لغموض العبارة وادعائها التعقيد واستحالة الوصول.
إلى ذلك فإن الحاج وبنزعة رواقية، بل ارستقراطية، فضّل الخسارة والهزيمة على الربح والنصر. ليس فقط أنه عزف عن تسويق نفسه، كما فعل البعض من أبناء جيله، زاهداً بالشهرة وأسبابها من جوائز أدبية وظهور اعلامي، بل أنه، وكما يفعل الشاعر الحديث الصادق، ابتعد عن الشعر حينما أحسّ بأنه قال كل ما عنده. كان الشعر عنده سعياً فرديّاً غير مرهون بمشروع سلطة من أي نوع وطبيعة. حكاية انه أمسى “شاعراً كبيراً” وينبغي أن يبقى حاضراً ظاهراً في الحياة الأدبية العامة، لمجرد انه صاحب إنجاز أدبي مهمّ، لم تستهوه. أما الإهتمام والتقدير الذي حظي به فلم يكن استجابة لطلبه وسعيه. عودته الى الكتابة الأدبية وتوافر اعماله بعد نفادها يعود الى رمزين أدبيين، الناشرين الراحلين رياض الريس ولقمان سليم، لم يتهيبا المجازفة في نشر أعمال أدبية عصيّة على ذائقة الدهماء. أن صاحب دار “منشورات المتوسط” أقبل مؤخراً على نشر الأعمال الكاملة لأنسي الحاج دليل متجدد على أن الحاج، انجازاً أدبياً وسيرة، بما يمثّل من مصداقية أخلاقية وجمالية، راسخ الأهمية في أذهان من يقدّر الشعر من دون حسابات ومصالح.

اترك تعليقاً