الخوري نسيم قسطون:
في زمنٍ يبدو فيه الاهتمام بالله محدودًا، يظلّ السعي إليه حاجةً عميقةً في النفس البشريّة، حتى وإن تنكّرت لها الظروف أو غفلت عنها القلوب. فالإنسان، في صميم وجوده، يبحث عن السلام والغفران والسعادة، وهي أمورٌ لا تُمنح إلا من خلال علاقةٍ حقيقيّةٍ مع الله. لكنّ هذه العلاقة غالبًا ما تُهمَل في زحام الحياة، فلا يُلجأ إلى الله إلا في لحظات الأزمات أو المناسبات الاجتماعيّة، وكأنّ وجوده مقتصرٌ على تلبية الحاجات العابرة، لا على بناء حياةٍ روحيّةٍ متجذّرة.
في قصة شفاء الأبرص (مرقس 1: 35-45)، نجد صورةً قويّةً لهذه العلاقة المفتقدة. الأبرص، الذي كان منبوذًا من المجتمع بسبب مرضه، لم يجد ملجأً إلا في الربّ. مرضه لم يكن جسديًّا فحسب، بل كان أيضًا روحيًّا واجتماعيًّا. لقد عانى من العزلة والوصم، لكنّ شفاءه لم يكن مجرّد تحسّنٍ في حالته الصحيّة، بل كان تحوّلًا كاملًا في حياته. لقد أصبح شاهدًا لقوّة الله ورحمته، بعد أن كان رمزًا للخطيئة والعقاب في نظر المجتمع.
هذا التحوّل يطرح سؤالًا مهمًّا: هل ندرك برصنا الروحيّ؟ فكما أنّ البرص الجسديّ يُفقد الجسد صحّته، فإنّ البعد عن الله يُفقد الروح حيويّتها. قد ننشغل بالنجاح الماديّ أو المناصب أو مباهج الحياة، لكنّ هذه الأمور، رغم بريقها، لا تُشبع الجوع الروحيّ. فالحياة الحقيقيّة لا تكمن فيما نجمعه من ممتلكات أو ما نحقّقه من إنجازات، بل في العلاقة التي نعيشها مع الله، والتي تمنحنا السلام الداخليّ والفرح الأبديّ.
الصمت، في هذا السياق، يصبح أداةً ضروريّةً للقاء الله. ليس الصمت الذي يعني الانعزال عن العالم، بل الصمت الذي ينبع من السلام الداخليّ، والذي يسمح لنا بالإصغاء إلى صوت الله في أعماقنا. هذا الصمت هو ما نحتاجه في عالمٍ مليءٍ بالضجيج، حيث تُغرقنا الأصوات الخارجيّة، فتفقدنا القدرة على سماع الصوت الداخليّ الذي يدعونا إلى التقرّب من الله.
لكنّ التقرّب من الله يتطلّب جرأةً وصراحةً، كما فعل الأبرص. لقد قدّم نفسه للربّ بكلّ ما فيه من ضعفٍ وألم، طالبًا الشفاء. نحن أيضًا مدعوّون إلى أن نقدّم لله برصنا الروحيّ، بكلّ ما فيه من قسوةٍ وجفاء، طالبين الغفران والتحوّل. فالله لا يرفض من يأتي إليه بقلبٍ صادق، بل يمنحه الشفاء والحياة الجديدة.
في عالمنا اليوم، ما زال هناك “برص” كثيرون، ليسوا بالضرورة مرضى جسديًّا، لكنّهم يعانون من العزلة والوصم الاجتماعيّ. الفقراء، المحتاجون، المهمّشون، كلّهم يحتاجون إلى من يمدّ لهم يد العون، ليس فقط بالمساعدات الماديّة، بل بالحبّ والتضامن الروحيّ. يسوع، بلمسه للأبرص، علّمنا أن نتحلّى بالشجاعة لنخترق حواجز الخوف والرفض، ونصل إلى قلوب الذين يعانون.
فهل نستطيع أن نقتدي بهذا المثال؟ هل نستطيع أن نلمس آلام الآخرين، ليس فقط بأيدينا، بل بقلوبنا وأرواحنا؟ إنّ الإنجيل يدعونا إلى أن نكون شهودًا لمحبّة الله في العالم، من خلال أعمال الرحمة والتضامن التي نقوم بها. فكلّ فعلٍ محبّةٍ هو بمثابة لمسةٍ شافيةٍ تُعيد الحياة إلى من حولنا.
في النهاية، الحياة مع الله هي الحياة الحقيقيّة. فمن دونه، نصبح مجرّد وجودٍ بلا معنى، أمّا معه، فإنّنا نجد القيمة الأبديّة التي تمنحنا السلام والفرح. فلنقدّم له برصنا، ولنطلب منه الشفاء، حتى نعيش حياةً مليئةً بالحبّ والنور.
