الخوري نسيم قسطون:
في رحلة الحياة اليومية، نجد أنفسنا أمام مفترقات تدفعنا أحيانًا إلى الوقوع في أخطاء أو اتخاذ قرارات قد تكون عواقبها مؤلمة. وبينما نسعى لفهم ذواتنا وعلاقاتنا مع الآخرين ومع الله، نجد في مثل الابن الشاطر (لو15 /11-32) مفتاحًا لتأمل عميق حول طبيعة الرحمة والمحبة التي يجب أن تسود حياتنا.
النصّ الإنجيلي يقدّم لنا صورة حية عن الأب الذي يمثّل الحبّ غير المشروط، وعن الابنين اللذين يعبران عن وجهتين مختلفتين لكنهما تشتركان في فقدان البصيرة.
الأصغر من الأخوين يمثل الصورة الأكثر وضوحًا للخطأ الواضح: تركه لبيت أبيه وتصرفه بتهور كان نتيجة الغفلة والغرور. لكن ربما الأسوأ هو أنه لم يكن فقط يدير ظهره لأبيه بل أيضًا لنعمة الله الممنوحة له كإرث. هنا يمكننا أن نسأل أنفسنا: كم مرة نتصرف كما فعل هذا الابن؟ هل نستبدل الروحانية والنعمة السماوية بأمور دنيوية لا قيمة لها في النهاية؟ وهل نحمل الله مسؤولية خيباتنا بينما هي نتاج اختياراتنا الخاطئة؟
أما الأخ الأكبر، فهو يعكس نوعًا آخر من التقصير: رفضه لقبول الآخر وتوبته. ففي حين يبدو ملتزمًا ومستقيمًا ظاهريًا، إلا أن قلبه كان مليئًا بالحكم على الآخرين ورفضهم. هذه الحالة تذكرنا بأن الاستقامة القانونية بدون رحمة هي مجرد قناع يخفي غياب الحب الحقيقي. هنا يمكننا أن نسأل أنفسنا أيضًا: كم مرة قمنا بإبعاد الآخرين عن الله بسبب تصلبنا أو عدم قبولنا لتغيرهم؟ وكيف يمكننا أن نكون شهودًا على الرحمة إذا كانت قلوبنا مغلقة أمام الغفران؟
الدرس الرئيسيّ الذي يظهر في هذا النص هو أن إلهنا ليس كالبشر. هو ليس إله حسابات وقوانين جامدة؛ بل هو إله ينتظر بفارغ الصبر عودة ضالّيه مهما كانت درجة ضلالهم. عندما عاد الابن الأصغر، استقبله الأب بكل حب، وأظهر له رحمة تتجاوز كل ما يمكن أن يتوقعه الإنسان. حتى الابن الأكبر، رغم صلابته، كان الأب يدعوه للدخول في الفرح بدلاً من الانشغال باللوم والانتقاد.
إن رسالة هذا النص ليست فقط في القبول بالآخر، بل أيضًا في العودة إلى الذات. فالرحمة ليست مجرد شعور أو فكرة، بل هي عمل مستمر يبدأ بالاعتراف بضعفنا وبأننا جميعًا محتاجون إلى الغفران. عندما ندرك ذلك، نصبح أكثر انفتاحًا على الله وعلى الآخرين. الرحمة هنا ليست ضعفًا، بل هي القوة الحقيقية التي تعيد بناء العلاقات وتفتح الأبواب المغلقة.
في عالم يزداد فيه الحكم على الآخرين والتمسك بالحقوق الشخصية، علينا أن نتذكر دائمًا أن الله لم يخلقنا لنعيش كآلهة صغيرة تدين وتتحكم، بل ليكون لنا قلب ينبض بالحب والتسامح. عندما نرى الآخرين بعيون الله، ندرك أن كل شخص يستحق فرصة جديدة، وأن كل خطأ يمكن أن يكون بداية طريق نحو الخلاص.
إذا كان الموت الروحي يبدأ بقطع العلاقة مع الله واستبدالها بالغرور أو الحكم القاسي، فإن الحياة الروحية تتجدد عندما نعود إلى حضن الآب الذي يفتح ذراعيه دائمًا لكل من يقرع بابه. علينا أن نختار بين الانغلاق على ذاتنا وبين الانفتاح على نور الحب الإلهي. الرحمة ليست فقط هبة نطلبها، بل هي طريق نسلكه لنعيش حياة حقيقية مليئة بالمعنى والسلام.