الخوري نسيم قسطون:
الوعود الإلهيّة ليست مجرّد كلمات طمأنينة، بل هي ضمانات حقيقية لحضور الله الدائم بيننا. عندما قال الرب يسوع لتلاميذه: “لَنْ أَتْرُكَكُم يَتَامَى” (يوحنا 14\ 15-20)، كان يخاطب قلوب المؤمنين عبر الأجيال كلّهم، مذكّرًا إيّاهم أن غيابه الجسدي لا يعني فقدانهم للعلاقة معه، بل هو انتقال إلى حضورٍ أعمق وأشمل. هذا الحضور الجديد لم يأتِ بشكل بشريّ عاديّ، بل عبر الروح القدس، الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس، الذي يجعل من الكنيسة جسد المسيح الحيّ الممتد عبر الزمان والمكان.
في ظل التغيّرات التي تحيط بنا، يبدو أن شكل التواصل مع الله قد تحوّل: فالجسد البيولوجي أصبح القربان المقدس، والكلام المباشر تحوّل إلى الكتاب المقدّس، والأفعال العينيّة صارت سرّيةً أكثر حميميّة، والصلاة تجاوزت حدود الزمان والمكان. لكن وراء كل هذه التحوّلات يقف الروح القدس كمحرّك حقيقي لكل حياة كنسيّة. فبدونه، لا قيمة لهذه الوسائل الرّوحية، لأنها لن تكون إلا رموزاً خالية من الحياة.
الرّوح القدس ليس مجرّد قوّة أو تأثير معنوي، بل شخصٌ إلهيّ يسكن في المؤمن منذ لحظة المعموديّة، ويمنحه الهوية الجديدة كابن لله. وهو الذي يقوده إلى الصلاة الصحيحة، ويؤهّله لفهم كلمة الله، ويقوّيه عند الخطيئة ليُعيد توجيهه نحو التوبة. كما أنه يجمع المؤمنين في جسد واحد هو الكنيسة، ويُحيي فيهم المواهب المختلفة لخدمة الملكوت، ويُثمر في نفوسهم ثمار المحبّة والفرح والسلام.
لكن على الرغم من ذلك، يبقى هناك شرط أساسي: “إِنْ تُحِبُّونِي تَحْفَظُوا وَصَايَاي”. هذا الشرط لا يقتصر على الوصايا العشر فقط، بل يشمل الوصيّة الجديدة التي وضعها يسوع أساسًا للحياة المسيحية: المحبّة الأخوية. هل نحن فعلاً نحبّ الآخرين كما أحبّنا المسيح؟ هل حياتنا تعكس هذا الحبّ في أفعالنا وتصرفاتنا اليوميّة؟
الكنيسة، في زمن العنصرة، تدعونا لفحص ضميرنا. هل نعطي الأولوية للصلاة أم نتركها وراء أعمالنا المادّية؟ هل نكرّم أهلنا من قلبنا أم من باب الواجب فقط؟ هل نكتفّي بعدم القتل، أم نقتل بالكلمات والنظرات والمشاعر السلبية؟ هل نحافظ على الأمانة في علاقاتنا، أم نسمح للأفكار والشهوات بأن تشوه قدسية العلاقة البشرية؟
العنصرة ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو دعوة مستمرّة لإعادة اكتشاف دور الروح القدس في حياتنا. هو الذي يقدّسنا، ويعلّمنا، ويقوّينا، ويباركنا، ويجعلنا شهودًا للمحبّة الإلهيّة في العالم. لكن يجب أن نفتح له قلوبنا، وأن نجعل له مكانًا حقيقيًّا في أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا.
القداسة تترجم أوّلًا بممارسات يوميّة بسيطة: القراءة المنتظمة للإنجيل، والصلاة الصادقة، والتواضع في التعامل مع الآخرين، والعمل بكل إخلاص، والسعي المستمر للتغلّب على الأنانيّة والكبرياء. فالعنصرة تعيدنا إلى جذور إيماننا، وتعيدنا إلى مدرسة الروح القدس حيث نتعلّم كيف نحبّ حقًّا، ونخدم بإنسانيّة، ونشهد بصدق.
في النهاية، إن عيد العنصرة هو عيد ميلاد الكنيسة، وهو أيضًا عيد ميلادنا الروحيّ إذا ما استجبنا لنداء الروح القدس. فالكنيسة ما زالت تشهد رغم كل الصعوبات، وما زال المؤمنون يحملون كلمة الله إلى العالم، لأن الله لم ولن يتركنا يتامى.