الخوري نسيم قسطون:
في مطلع زمن الصوم، تتجلى دعوة الكنيسة إلى رحلة روحيّة عميقة تتخطى المظاهر الخارجية لتصبح فرصة للارتقاء بالحياة الداخلية.
هذه الرحلة لا تبدأ بحرمان أو قسوة، بل تنطلق من فرح عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-11) الّذي يرمز إلى بداية جديدة مليئة بالأمل والثقة بالله. في ه: ذا العرس، نجد أن الخمر، الذي كان يُعتبر -رمزًا للفرح البشري المؤقت، قد نفد، لكن التدخل الإلهي حوّل الموقف إلى مصدر سرور دائم عبر خمر جديد لم يكن ليُستهلك ثم يزول، بل جاء ليعبّر عن فرح عميق ومستدام ينبثق من العلاقة مع الله.
الصوم إذن ليس مجرد ترك الطعام أو الامتناع عن بعض الملذات، بل هو عملية إعادة صياغة الأولويات الحياتية. إنه دعوة للتخلص من كل ما يأسر القلب والعقل بعيدًا عن الله، سواء كانت تلك الأغلال ماديّة كالشهوات الزائدة، أو معنوية كالأنانية والكبرياء. في هذا السياق، يصبح الصوم فعلًا إيجابيًا أكثر منه سلبيًا؛ إنه فرصة لتقوية الروح وتوجيهها نحو ما هو أسمى وأبقى. فالجسد الذي يتغذى على الخبز اليومي يمكنه أن يكتشف طعمًا آخر، طعمًا روحيًا يمنحه السلام الداخلي والارتواء الحقيقي.
من هنا تأتي أهمية ثلاثية الصلاة والصوم والصدقة كركائز أساسية لهذه المسيرة:
- الصلاة ليست مجرّد كلمات نرددها، بل هي حوار حميم مع الله يعكس شوقنا للتواصل معه واستمداد القوة منه.
- أما الصوم، فهو ليس مجرد انقطاع عن الطعام، بل هو وسيلة لإعادة ترتيب الحياة بحيث يصبح الله محورها الأساسي.
- والصدقة، بدورها، ليست فقط تقديم المال للمحتاجين، بل هي تعبير عن الرحمة والمحبة التي يجب أن تكون جزءًا من شخصيتنا اليومية. هذه الثلاثية تتكامل مع بعضها البعض لتشكل طريقًا واضحًا نحو النمو الروحي.
لكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟
يمكننا انتهاز فرصة زمن الصوم كي نقوم بتغيير نظرتنا إلى الأمور المادية. كثيرًا ما نربط السعادة بما نملكه أو بما نستهلكه، بينما الحقيقة أن السعادة الحقيقية تكمن في العلاقة الصحيحة مع الله ومع الآخرين. لذلك، نحن مدعوون إلى التخلي عن كل ما يبعدنا عن هذه العلاقة، سواء كان ذلك أمورًا مادية أو عادات سيئة أو حتى أفكارًا سلبية. إنها دعوة لتحويل انتباهنا من الخارج إلى الداخل، من المظاهر إلى الجوهر.
الأمر يبدأ بوعي عميق بالنقص الموجود داخل كل واحد منا. كما حدث في عرس قانا عندما نفد الخمر، نحن أيضًا قد نجد أنفسنا في حالة نقص تجعلنا ندرك حاجتنا إلى الله. هذا الوعي يدفعنا إلى البحث عن الحلول الحقيقية وليس المؤقتة. فالخمر الذي قدمه يسوع في العرس لم يكن مجرد مشروب، بل كان رمزًا لنعمة الله التي تملأ الفراغات في حياتنا وتحول الألم إلى فرح، والضعف إلى قوة.
الصوم إذًا ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق غاية أعلى: الامتلاء بالله. هذا الامتلاء يتمثل في القربان الذي نتناوله، وفي أعمال المحبة التي نقدمها، وفي الصلاة التي نرفعها. إنه دعوة لعيش حياة متوازنة حيث يتكامل الجسد مع الروح، ويصبح الإنسان قادرًا على أداء رسالته في العالم دون أن يعيقه أي نوع من القيود. فالصوم، بهذا المعنى، هو مغامرة حب مع الله ومع الإنسان، مغامرة تهدف إلى بناء علاقة أعمق وأصدق مع الله ومع الآخرين.
في ختام تأمّلنا، يدعونا نصّ عرس قانا الجليل كي نبدأ هذه الرحلة بثقة ورجاء، ولنجعل من زمن الصوم فرصة للنمو الروحي والتغيير الإيجابي. ففي النهاية، من المهم أن نوازي بين أهميّة التنبّه إلى عدد الأيام التي صمنا فيها أو الأطعمة التي امتنعنا عنها، وأهميّة أن ننهي هذه الرحلة وقد ازددنا قربًا من الله ومحبةً للناس.