أسابيع التذكارات-أحد الأبرار والصدّيقين

الخوري نسيم قسطون:

أحد الأبرار والصدّيقين، وهو الأحد الثاني من آحاد التذكارات الممهّدة لزمن الصوم.

نتأمّل في هذا الأحد بنصٍّ تطلق عليه أحيانًا تسمية “نصّ الدينونة”  (متى 25: 31-46).

نعلم جيّدًا أنّ العلاقة بين النّاس والله كانت قائمةً على مبدأ الخوف فالله بالنسبة لشعب العهد القديم هو القاضي والمنتقم والديّان.

تبلورت هذه الصورة القاسية عبر العصور من جرّاء تأثّر العبرانيّين اليهود بالمفاهيم المحيطة بهم حول الألوهيّة.

فالإله لدى الوثنيّين هو مركّب من كلّ ما قد يخافه المرء أو يتمنّاه فنجد لديهم إله الحبّ فيما يقابله إله الحرب ونجد إلهًا للخصب يقابله إلهٌ للموت…

هذا المزيج الفكريّ أدّى بشعب العهد القديم إلى التأرجح ما بين ما يُوحَى له عن الله كأبٍ وراعٍ وما يعرفه من محيطه عن الآلهة من أساطير أو روايات أوصلت إلى إزدواجيّة مريعة في النظرة إلى الله، ما زلنا نعاني منها حتّى اليوم إذ يسود علاقتنا بالربّ تأرجحٌ بين الخوف والمحبّة رغم كلّ ما قام به الربّ من أجلنا ومن أجل خلاصنا.

يبدأ الإنسان مسيرة القداسة حين يتجاوز مرحلة الخوف من الله لينطلق في مسيرة محبّة الله التي تقترن بالخوف على ذاته وعلى خلاصه إذا ما عاش بعيدًا عن الله. فالربّ يحزن إذا ما خسر نفسًا ولكنّه يبقى الله، أما الإنسان فحين يبتعد عن الله يخسر كلّ ما يعطي معنى لحياته.

يدعونا نصّ اليوم إلى تجاوز الأفكار هذه القديمة نحو ما أظهره الربّ يسوع عن الله كإله محبّة وغفران وصفحٍ وفداء أي إلى الإنتقال من مفهوم الخوف من الله إلى مفهوم محبّة الله الفادي والمخلّص الّذي يُختصر بالكلمات التالية: القدّيس لا يخاف من الله!

كي نغوص في نصّ اليوم، سنأخذ مثالاً من الحياة اليوميّة: حين يمرض الإنسان، يذهب إلى الطبيب ليُشخّص له الدّاء وليصف له الدواء المناسب في وصفة يتزوّد بها من الصيدليّة فلا يبقى عليه سوى البدء بالعلاج ليشفى من العلّة.

يطبّق هذا المثل على إنجيل اليوم!

فالله هو طبيب البشريّة الّذي شخّص داءها بنقص المحبّة وبالأنانيّة وبحبّ الذات ووعد البشريّة بالخلاص وحقّق وعده بتجسّد وبموت وبقيامة الربّ يسوع المسيح.

في هذا النصّ، يشبّه يسوع المسيح الطبيب الّذي يعطي البشريّة الدواء الفعّال لجراحها ولمآسيها وهو محبّة القريب والغريب على السّواء.

كثيرون بيننا لا يفعلون هذا لإعتباراتٍ عديدة ومنها أنّ معظم مشاكلهم هي مع الأقربين خاصّةً وليست مع الغرباء لا بل أحيانًا يساعدون الغرباء بما يحجبونه عن الأقربين…

وهنا بيت القصيد في إنجيل اليوم ومفاده بأنّ درب القداسة يبدأ في وسط المحيط الّذي أراد الله أن نكون فيه وأن نصبح قدّيسين فيه ومن خلاله:

  • العائلة: حيث القداسة في الحياة الزوجيّة وفي المثال الّذي يقدّمه الأهل للأولاد منذ الصغر وحتى نهاية حياتهم.
  • العمل: العلاقات مع النّاس والتفاعل معهم هي أيضًا من السبل لعيش القداسة.
  • المجتمع: التفاعل مع المجتمع في الأفراح والأحزان كما في المساهمة في أعمال الخير هي أيضًا من السبل للقداسة.

ومع هذا، يبقى السبيل الأصعب هو عيش القداسة والسعي إليها مع مَن نعيش معهم كلّ يوم ومع مَن نلتقي بهم كلّ يوم وهم عادةً مَن لا نتصوّر أبدًا أن يكون بمقدورنا أن نعيش درب القداسة معهم أو حتّى بسببهم علمًا بأنّه يمكن البدء بمشروع القداسة بأمورٍ بسيطة، كغضّ النظر عن تقصيرٍ ما مثلاً…

كتب بول أوستير (كاتب أميريكي معاصر) ما يلخّص إنجيل اليوم قائلًا: “إذا تمكّن الناس من أن يعيشوا براحة ضمن محيطهم، وإذا أمكنهم بأن يتلقّنوا كيف يشعرون بأنهم جزء من محيطهم، عندها ستنطبع الحياة على الأرض بالطبع بنفحة القداسة”.

 

اترك تعليقاً