الخوري نسيم قسطون:
يوحنّا المعمدان، ذاك الصوت الصارخ في البرّيّة، اختبر حضور الله بقلب منفتح وعينين تشهدان للحقيقة. لم يكن يوحنّا شاهدًا عاديًا، بل كان شاهدًا فريدًا من نوعه، أدرك جوهر الآتي إليه، ذاك الّذي حمل خطيئة العالم. في لقائه بيسوع )يو1\ 29-34(، لم تكن شهادته مجرّد كلمات فارغة، بل كانت إعلانًا لحقيقة إيمانه. حين رأى الروح ينزل على يسوع، فهم أنّه قد أُعطي رسالة إلهية، فأطلق شهادته بثقة، عارفًا أنّه يقف أمام حمل الله، مخلّص العالم.
الحياة المسيحيّة اليوم تدعونا لأن نحيا هذه الشهادة في كلّ لحظة. هي ليست مسألة ترف دينيّ، بل مسؤولية وجودية. هل نعيش إيماننا فعلاً، أم يبقى إيماننا مجرّد تقليد نتوارثه؟ يوحنّا يذكّرنا بأنّ الشهادة ليست فقط ما نقوله، بل كيف نعيش، كيف نحبّ، وكيف نُظهر الله من خلالنا. فالله بادر بالمحبّة تجاه الإنسان، ولم يتوقّف عن المبادرة. إنّ إدراك هذه الحقيقة يتطلّب قلبًا مفتوحًا وروحًا تصغي لصوت الله في كلّ لحظة.
عندما ننظر إلى العالم من حولنا، هل نرى بصمات الله فيه؟ الأحداث التي تمرّ، الأشخاص الذين نلتقي بهم، اللحظات التي تبدو عادية… كلّها تحمل في طيّاتها دعوة لرؤية الله في التفاصيل. لكن السؤال يبقى: هل نحن مستعدّون للاستجابة؟ هل نتجرّأ أن نكون صوتًا يشهد للمسيح، كما فعل يوحنّا، حتّى لو كان ذلك يعني الذهاب عكس التيّار؟
شهادة يوحنّا تذكّرنا بأنّنا لسنا وحدنا. الله معنا، يرافقنا ويعمل فينا. الروح القدس الذي استقرّ على يسوع هو نفسه الروح الذي يعمل فينا، يدعونا لنكون رسلاً وشهودًا. الشهادة ليست مجرّد كلمات، بل هي حياة، هي عمل محبّة يوميّ تجاه الآخر، هي غفران لمن أساء إلينا، وهي خيار مستمرّ لعيش الحقّ حتّى في أصعب الظروف.
حين نقف أمام هذا الدعوة، قد نشعر بعدم الكفاية. قد نتساءل: من نحن لنشهد؟ لكن يوحنّا لم يشهد لأنه كان عظيمًا في ذاته، بل لأنّه أفسح المجال لله ليعمل فيه. نحن مدعوّون للقيام بالأمر نفسه. ليس المطلوب الكمال، بل الاستعداد. الاستعداد لنكون أداة بيد الله، مهما كانت بساطتنا وضعفنا.
العالم اليوم، في خضمّ انشغاله بصراعاته ومشاكله، يحتاج إلى شهود حقيقيّين. شهود يرفعون صوت الحقّ في وجه الظلم، يشهدون للمحبّة في عالم يزداد فيه الحقد، ويعلنون السلام في زمن تكثر فيه الحروب. شهادة يوحنّا ليست مجرّد ذكرى، بل هي رسالة حيّة لكلّ من يؤمن بالمسيح. إنها دعوة للعيش بشجاعة وإيمان، للثبات في وجه التحديات، ولإظهار وجه الله لكلّ من نلتقي بهم.
في النهاية، الشهادة ليست عملاً بطوليًا يُنجز لمرة واحدة. هي رحلة يوميّة، تختبر فيها نفوسنا عمق الإيمان وجمال المحبّة الإلهيّة. هي حياة تُعاش بفرح وسلام، تعرف أنّها مدعومة بنعمة الله. في كلّ خطوة، الله معنا، يرافقنا، يبارك جهودنا الصغيرة، ويحوّلها إلى بركة عظيمة في حياة الآخرين.
فلنسأل أنفسنا يوميًا: هل نسمح لله بأن يعمل فينا؟ هل نحن شهود حقيقيّون في حياتنا، أم أنّنا نكتفي بالظهور كمتديّنين دون عمق؟ يوحنّا يدعونا لنكون أكثر من ذلك. يدعونا لأن نكون نورًا في الظلمة، صوتًا للحقّ، وحياةً تمجّد الله. فلنتجاوب مع هذه الدعوة، ولنعش الشهادة بكلّ أمانة، كما عاشها يوحنّا، وكما يدعونا المسيح.