الخوري نسيم قسطون:
في صميم اللقاء بين يسوع وبطرس (يوحنا 21: 15-19)، يتردد سؤال عميق يتجاوز حدود العاطفة الإنسانية المعهودة: “أتحبّني؟”. هذا الاستفهام، الذي تكرر ثلاث مرات ليطابق عدد مرات إنكار بطرس ليسوع، لا ينبع من شك أو حاجة إلى تأكيد بقدر ما هو دعوة إلى استحضار عمق العلاقة وتجديد الالتزام بها. إنه ليس سؤال العاشق المتلهف لسماع كلمات الغرام، بل هو سؤال الرب العارف ببواطن الأمور، الذي يسعى إلى ترميم ما تصدع في نفس تلميذه الأمين بعد لحظات الضعف الإنساني.
هذا الحوار المؤثر يمحو آثار الخيانة والندم التي تثقل كاهل بطرس، ويعيده إلى مكان الصدارة في مسيرة نشر رسالة المحبة التي أوكلها إليه السيد قبل صعوده إلى الآب. لكن هذه المسؤولية الجديدة تأتي مصحوبة بواقعية قاسية، إذ يكشف يسوع لبطرس عن الطريق الوعر الذي ينتظره، طريق مليء بالتحديات والصعاب التي قد لا يرغب بها إنسان، وصولًا إلى مشيئة إلهية قد تقوده إلى مصير لم يختره.
في هذا الأحد المبارك، يُدعى كل واحد منا ليضع ذاته موضع بطرس الرسول، ليواجه أسئلة الضمير التي يطرحها إنجيل اليوم. هل أنكرنا يسوع في لحظات ضعف أو يأس؟ اليوم يمنحنا فرصة للانطلاق من جديد برفقته. هل خناه بأفعال أو أقوال تتعارض مع جوهر الإيمان؟ اليوم يغفر لنا إن كانت جذور المحبة لا تزال عميقة في قلوبنا. هل قصرنا في واجباتنا المسيحية؟ اليوم تدعونا الكنيسة لنسلم قيادنا للرب، لتكون إرادته هي مرادنا. هل نعيش على هامش إيماننا؟ اليوم يدعونا يسوع لنكون شهودًا له في كل مكان. هل نقول للناس ما لا نحياه؟ اليوم يشفينا من الازدواجية لنعود إلى أصالة رسالتنا. هل يستبد بنا الخوف؟ اليوم يطمئننا قائلاً: “أنا أتكل عليك”. هل نشعر بالتقصير تجاه من هم تحت مسؤوليتنا؟ اليوم يدعونا يسوع لتقويتهم في لحظات ضعفهم، كما قوّى هو بطرس في ضعفه.
إن سؤال “أتحبّني؟” لا يزال يتردد صداه في القرن الحادي والعشرين، موجّهًا إلى كل مسيحي. إنه سؤال يحمل في طياته دعوة إلى التفكير العميق في طبيعة محبتنا لله وكيفية تجسيدها في حياتنا اليومية. فالمحبة الحقيقية ليست مجرد كلمات، بل هي أفعال تترجم إيماننا وتنعكس في علاقاتنا مع الآخرين، سواء كانوا قريبين أم بعيدين. لا قيمة لادعاء محبة الله إن لم تتجسد في محبة القريب.
هذا الحوار يجدد فينا الثقة بعد فترات الشك أو الضعف، لكنه تجديد يتسم بالواقعية. فالاتباع الحقيقي ليس أعمى، بل هو مسيرة واعية نحو الملكوت والحياة الأبدية، حتى وإن كانت الطريق محفوفة بالصعاب. إن دعوة “إتبعني” التي يوجهها يسوع لبطرس ولكل واحد منا هي دعوة للثبات في الإيمان، لإبقاء عيوننا شاخصة نحو الرب وقلوبنا مفتوحة لوحيه المقدس، حتى في لحظات اليأس التي قد تعترينا. إنها دعوة للشهادة والاستشهاد بالحب، تاركة لنا مثالًا عظيمًا في التوبة والالتزام.
لذا، يا من يثقل كاهلك حزن الماضي، انطلق في حاضرك نحو مستقبل مشرق مع الله، مستندًا إلى شرط واحد: محبتك له. ففي هذا السؤال العميق يكمن مفتاح تجديد الذات والنهوض من جديد، متمسكين بالرجاء الذي يدعونا إليه إنجيل هذا اليوم.