الخوري نسيم قسطون:
في هذا الأحد الأخير من زمن القيامة، نقف أمام كلمات يسوع التي لا تزال حيّة في قلوبنا: “وَصِيَّةً جَدِيدَةً أُعْطِيكُمْ، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ” (يوحنا 13: 31-35).
كلمات بسيطة لكنها تحمل عمق الرسالة المسيحية كلها، وتكشف عن هوية التلميذ الحقيقي ليسوع، وعن مقياس وجود الكنيسة وصدق رسالتها. فليس المجد في العظمة أو القوة أو الحكمة البشرية، بل في المحبة التي تتجرّد وتُعطي بلا حدود.
ما يجعل هذه الوصية جديدة ليس فقط أنها جاءت بعد الوصايا السابقة، بل لأنها تختصرها كلها. فكل ما سبق من تعاليم الكتاب المقدس، بما فيها الوصايا العشر، يتجلى في حكمتها وجوهرها عندما نمارس المحبة. فمن يحب حقًا، لا يقتل، ولا يسرق، ولا يشهد بالزور، ولا يشتهي ما ليس له، لأنه يرى في الآخر صورة الله ويحترم قداسته. ومن يحب، يسبّح الله في حياة أخيه، ويُعطي من وقته وجهده ليعبر عن امتنانه للذي وهبه الحياة.
لكن يسوع لم يكتفِ بدعوة عامة للحب، بل وضع معيارًا واضحًا: أن نحب كما أحبنا هو. أي بمحبة متجردة، تضحّي وتخدم، لا تنتظر مقابلاً ولا تضع شروطًا. إنها محبة صليبية، تفتح الذراعين على الصليب، وتغفر للمؤذي، وتُعطي حتى النهاية. هذه ليست مجرد فكرة رومانسية، بل اختبار حقيقي عاشه يسوع على الصليب حين طلب لأجل من صلبوه: “إغفر لهم يا أبتاه، فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.
الكنيسة، في هذا الوقت الليتورجي، تدعونا لنعيد النظر في حياتنا وفي علاقاتنا. كيف نعيش هذه الوصية اليوم؟ وكيف نجعل المحبة أساس وجودنا داخل الأسرة والمجتمع والكنيسة؟ الواقع قد يبدو مريرًا أحيانًا، إذ نواجه خيانات، ظلمًا، غدرًا، وأحقادًا، ولكن هنا تظهر قوة الإيمان. فالمحبة المسيحية ليست رد فعل على مشاعر الآخرين، بل اختيار حرّ يتأسس على محبة المسيح لنا، تلك التي لا تُفهم إلا عندما ننظر إليه على الصليب.
قصص كثيرة عبر التاريخ، وحتى في أيامنا، تشهد بأن هذه المحبة ممكنة. هناك من سامح من قتله، ومن أعطى حياته لخدمة من كرهوه، ومن فتح قلبه للآخر رغم الألم والجراح. هؤلاء لم يسلكوا بمشاعرهم، بل بقوة الروح الذي يحرر الإنسان من الكراهية ويمنحه القدرة على العفو والحب.
وصيّة المحبة ليست إرشادًا أخلاقيًّا فحسب، بل هي دعوة لتجديد القلب والحياة. إنها دعوة إلى الخروج من سجن الأنانية والكبرياء، والانفتاح على الآخرين بصدق وتواضع. هي أيضًا دعوة لاختبار حضور الله في كل علاقة، وفي كل خدمة، وفي كل عمل محبة، لأن الله لا يتركنا وحدين، بل يعمل فينا ومعنا وفي الآخرين الذين يمدون لنا أيديهم.
بهذا الحب، وبهذا التواضع، وبهذا العفو المستمر، يعرف الناس أننا تلاميذ يسوع. وليس بمظاهر العبادة أو الخطابة أو الأعمال الخيرية وحدها، بل بقلب يحب كما أحب يسوع. فلنطلب منه أن يعلمنا أن نحب، وأن نكون أدوات لمحبته في عالم يبحث عن معنى للحياة والسلام.