الخوري نسيم قسطون:
في هذا الأحد، نقف أمام لحظةٍ مميزة من حياة الرسل الأولى، حين ظهر الرب يسوع في وسطهم بعد قيامته، ليقدّم لهم السلام وليذكّرهم برسالتهم التي لا تنتهي. لكن هذه اللحظة لم تخلُ من خوفٍ وارتباكٍ منهم، فرغم كل ما سمعوه من عائدي عمّاوس، رغم كل ما عاشوه معه من آيات ومعجزات، ظلّت القلوب مشدودةً بين الحيرة والخشية. هنا نرى كيف أن الإنسان، حتى وهو في صحبة المسيح شخصيًا، قد يظل أسيرًا للخوف، غير قادر على استيعاب عمق الحضور الإلهي الذي يفوق المنطق.
يسوع، في حلمه اللانهائي، لا ينزعج من خوفهم، بل يواجهه بصبر المعلّم وحنان الرب. يسألهم: “ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخالج هذه الأفكار قلوبكم؟” ثم يثبت لهم أنه ليس روحًا أو شبحًا، بل إنسانٌ حقيقي له جسد، فيطلب طعامًا ويأكل أمامهم. بهذا التصرف البسيط، يكشف عن طبيعة الجسد المجيد، جسد القيامة الذي لا يشبه الجسد الأرضي إلا في الشكل، ولكنه مختلف تمامًا في الجوهر. إنها دعوة لنا لنعيد النظر في فهمنا للحياة ما بعد الموت، ونؤمن بأن الله قادرٌ على إعادة الحياة لجسدنا يوم القيامة، جسدًا جديدًا يحمل علامات الفداء، لا يخضع للفساد ولا يتأثر بالزمان.
ولكن الظهور الأخير ليس فقط لإثبات القيامة، بل هو أيضًا تكليفٌ رسولي. يذكر يسوع تلاميذه بأن الآلام كانت ضرورية، وأن القيامة حق، وأن عليهم أن يكونوا شهودًا لهذا الواقع أمام الأمم جميعًا، ابتداءً من أورشليم. هنا تتضح مهمة الكنيسة عبر العصور: أن تكون شاهدًا حيًّا لمحبة الله، شاهدًا للتوبة كسبيلٍ إلى الغفران، شاهدًا للقيامة كرمزٍ للرجاء الأبدي. فنحن اليوم، مثل الرسل، مدعوون لنقل الخبر، ليس فقط بكلماتٍ، بل بأفعالٍ وأقوالٍ تحمل صورة المسيح الحقيقي في عالمٍ كثيرًا ما يبحث عن معنى وجوده.
في زمنٍ يسيطر عليه القلق والفوضى، يطرح البعض سؤالًا يبدو معقولًا: كيف نعيش السلام الداخلي في ظل الظروف الصعبة؟ ولكن السؤال الأعمق يجب أن يكون: لماذا يبقى إيماننا هشًّا رغم كل ما قدّمه لنا الرب من وعدٍ ورحمة؟ فالإجابة تكمن في تركيزنا على المؤقت، وإهمالنا للدائم، في نسياننا أن الله لا يغيب، وإنما يختبئ في الغيوم ليجعلنا نبحث عنه بإيمانٍ أعمق. كما أن العاصفة لا تلغي الشمس، كذلك الصعاب لا تلغي حضور الله، بل تدعونا لتجربة إيمانٍ أكثر نضجًا.
إن الرب يسوع، المعلم والرب في آن، يعلّمنا أن نحيا في وسط العالم بلا خوف، لأنه معنا دائمًا، في كلمته وفي سرّه المقدّس، وفي كل من يفتح قلبه لنور الروح القدس. ومهما عصفت الرياح وارتفعت الأمواج، فإن يد الرب لا تتركنا، بل تترك لنا الحرية لنختاره، وتترك لنا العقل والنضج لنتعلّم أن نثق به، وأن نُظهر وجهه في حياتنا، وجهًا يشع محبةً وسلامًا وخلاصًا.
وأخيرًا، ماذا نقدّم للرب؟ ليس الخبز والماء كما فعل الرسل، بل نقدم له أنفسنا، لكي يحوّلها بنوره إلى أيقونةٍ حيّة له، يُرى فيها حضوره، ويُسمع فيها صوته، ويُعاش فيها خلاصه. لأن الرب لا يحتاج إلى طعامٍ مادي، بل يجوع إلى اللقاء مع قلوبنا، ليملأها برحمته، ويجعل منها بيتًا لسكنى الروح القدس.
