الخوري نسيم قسطون:
في مسيرة إيماننا، كثيرًا ما نُسقط على الله صورةً مشوّهةً ننحتها من مخاوفنا أو أنانيتنا، كما فعل الفريسيون عندما حوّلوا عمل المسيح الخلاصيّ إلى ضربٍ من الشيطنة (متى 12/22-32).
إنّها آليّة دفاعٍ نفسيّ نلجأ إليها عندما تصطدم رغباتنا بإرادة الله، فنتّهمه بالقسوة أو الظلم بدل أن نبحث عن الحكمة الكامنة في تدبيره. لكنّ الإشكال الحقيقيّ ليس في الله، بل في تلك العدسة المعتمة التي ننظر من خلالها إليه، والتي تشوّه رحمته إلى عقاب، وعطاءه إلى محاباة.
الحياة مع المسيح ليست مساحةً رمزيّة، بل انحيازًا يوميًّا إلى الجمع لا التبديد. فكلّ موقفٍ سلبيّ، كلّ صمتٍ أمام الظلم، كلّ انكفاء على الذات تحت شعار “عدم التدخّل”، هو في جوهره تشتيتٌ لقطيع المسيح. الكنيسة جسدٌ واحد، وإذا اعتبرنا أنفسنا أعضاءً منفصلة، نكون قد حكمنا عليها بالتشظّي. الأدهى من ذلك أن ننتقدها في الخفاء بينما نُظهر الولاء العلنيّ، فنُعمّق الشرخ بين ما نؤمن به وما نعيشه.
أمّا التجديف على الروح القدس، فليس كلمةً ننطقها، بل موقفًا وجوديًّا نعيشه عندما نُغلق أبواب قلوبنا أمام النور الإلهيّ. حين نُفضّل اليأس على الرجاء، والأنانيّة على المحبّة، نكون قد حكمنا على أنفسنا بالعزلة عن ينبوع الغفران. الله يحترم حريتنا إلى حدّ السماح لنا برفضه، لكنّ هذه الحرية نفسها هي التي تجعلنا مسؤولين عن اختياراتنا. هل نترك للروح القدس أن يعمل فينا، أم نحبسه في زنزانة الماديّات والاهتمامات العابرة؟
الخطر الأكبر يكمن في تحويل الإيمان إلى شعاراتٍ دون ممارسة، أو إلى طقوسٍ تفتقد الروح. المسيحيّة دعوةٌ إلى التواجد الفعّال في العالم، حاملين النور إلى كلّ مكان، وليس فقط إلى حيث نشعر بالراحة. حين نرى الألم حولنا ونختار اللامبالاة، نكون قد حوّلنا إيماننا إلى إيديولوجيا فارغة. الوجود المسيحيّ الحقيقيّ هو أن نلمس جراح البشر كما فعل المسيح، لا أن نبرّرها أو نغضّ الطرف عنها.
في النهاية، المسألة ليست في كمّ المعرفة اللاهوتيّة التي نكتسبها، بل في مدى انفتاحنا على تحويل هذه المعرفة إلى حياة. الروح القدس ليس فكرةً نؤمن بها، بل قوّةً تغيّرنا إذا سمحنا لها. السؤال الجوهريّ يبقى: هل نحن مستعدّون لأن نطلق سراح هذا الروح في حياتنا، أم سنستمرّ في سجنه خلف قضبان الخوف والأنانيّة؟
