باباواتٌ في رِحابِ مَزارِ سَيِّدَةِ لُبْنانَ – حَريصا

You are currently viewing باباواتٌ في رِحابِ مَزارِ سَيِّدَةِ لُبْنانَ – حَريصا
بقلم الأب جان ماري المير
عَلَى قِمَّةٍ تُعَانِقُ السَّمَاءَ، وَتُطِلُّ عَلَى الْبَحْرِ وَالْوِدْيَانِ، يَقِفُ مَزَارُ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ فِي حَرِيصا شَامِخًا، كَأَنَّهُ قَلْبُ الْوَطَنِ النَّابِضُ بِالْإِيمَانِ وَالرَّجَاءِ. وَفِي لَحْظَةٍ تَارِيخِيَّةٍ لَا تُنْسَى، تَتَّجِهُ أَنْظَارُ الْعَالَمِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ، مَعَ زِيَارَةٍ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا رَمْزِيَّةً عَمِيقَةً مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْوَحْدَةِ وَالسَّلَامِ… زِيَارَةُ قَدَاسَةِ الْبَابَا لاوونَ الرَّابِعَ عَشَرَ إِلَى مَزَارِ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ.
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَارَةُ الْفَرِيدَةَ مِنْ نَوْعِهَا، فَقَدْ شَرَّفَ هَذَا الْمَقَامَ الْمَرْيَمِيَّ الْعَدِيدُ مِنَ الْبَابَوَاتِ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ. فِي هذه الدراسة، سَنَعُودُ بِالزَّمَنِ إِلَى تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الْمُشْرِقَةِ، لِنَرْوِيَ فِيهَا قِصَّةَ لِقَاءِ التَّارِيخِ بِالْإِيمَانِ، وَنَتَأَمَّلَ كَيْفَ جَمَعَ مَزَارُ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ تَحْتَ جَنَاحَيْهِ أَبْنَاءَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، لِيَظَلَّ شَاهِدًا عَلَى مَحَبَّةٍ تُوَحِّدُ وَلَا تُفَرِّقُ، وَعَلَى إِيمَانٍ يَبْقَى أَقْوَى مِنْ كُلِّ زَمَنٍ.
البابا يوحنا الثالث والعشرون . (الكاردينال انجلو رُونْكالِي (يُوحَنَّا 23))
مُنْذُ أَنْ شُيِّدَ مَعْبَدُ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ فِي حَرِيصا، وَارْتَفَعَ تِمْثَالُهَا فَوْقَهُ، جَذَبَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، لِيَرْفَعُوا الصَّلَوَاتِ وَالتَّضَرُّعَاتِ عِنْدَ أَقْدَامِهَا الطَّاهِرَةِ. وَفِي طَلِيعَةِ الزَّائِرِينَ أَصْحَابُ السُّلْطَاتِ الرُّوحِيَّةِ وَالزَّمَنِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ الْمَزَارُ مَقْصِدًا لِكُلِّ مَنْ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ إِيمَانًا وَمَحَبَّةً لِلسَّيِّدَةِ الْعَذْرَاء. وَيَرْوِي الْكَرْدِينَال أَنْجِلُو رُونْكَالِي – الَّذِي أَصْبَحَ فِيمَا بَعْدُ قَدَاسَةَ الْبَابَا يُوحَنَّا الثَّالِثَ وَالْعِشْرِينَ – أَنَّهُ زَارَ لُبْنَانَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كَمَا ذَكَرَ فِي خِتَامِ الْمُؤْتَمَرِ الْمَرْيَمِيِّ الَّذِي عُقِدَ فِي بَيْرُوتَ سَنَةَ 1954.
كَانَتْ زِيَارَتُهُ الْأُولَى فِي أَوَاخِرِ أَيْلُولَ مِنْ عَامِ 1906، حِينَ كَانَ فَتًى صَغِيرًا مُتَّجِهًا إِلَى الْقُدْسِ لِزِيَارَةِ الْأَرَاضِي الْمُقَدَّسَةِ.
أَمَّا الزِّيَارَةُ الثَّانِيَةُ، فَكَانَتْ فِي الْأَيَّامِ الْأُولَى مِنْ حُزَيْرَانَ سَنَةَ 1939، عِنْدَمَا جَاءَ مِنْ إِسْطَنْبُولَ بِصِفَتِهِ قَاصِدًا رَسُولِيًّا إِلَى تُرْكِيَا، لِيُشَارِكَ فِي الْمُؤْتَمَرِ الْقُرْبَانِيِّ، فَخَصَّ مَزَارَ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ بِزِيَارَةٍ خَاصَّةٍ دَوَّنَ فِيهَا فِي سِجِلِّهِ أَسْمَى عَوَاطِفِهِ وَمَشَاعِرِهِ.
أَمَّا الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ، فَقَدْ أَوْفَدَهُ قَدَاسَةُ الْبَابَا بِيُوسُ الثَّانِي عَشَرَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي رِئَاسَةِ الْمُؤْتَمَرِ الْمَرْيَمِيِّ الْمُنْعَقِدِ فِي بَيْرُوت، فَزَارَ خِلَالَهَا مَزَارَ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ، وَدَوَّنَ مَرَّةً أُخْرَى انْطِبَاعَهُ الْعَمِيقَ عَنْ هَذِهِ الزِّيَارَةِ فِي السِّجِلِّ الذَّهَبِيِّ لِلْمَزَارِ.
وَفِي خِتَامِ الْمُؤْتَمَرِ، تَقَدَّمَ فَخَامَةُ رَئِيسِ الْجُمْهُورِيَّةِ اللُّبْنَانِيَّةِ كَمِيل شَمْعُون، فَسَلَّمَ الْكَرْدِينَال رُونْكَالِي تَاجًا ذَهَبِيًّا قَائِلًا: «بِاسْمِي، يَا صَاحِبَ النِّيَافَةِ، وَبِاسْمِ هَذَا الْحَشْدِ الْعَظِيمِ الْمُجْتَمِعِ هُنَا، وَبِاسْمِ الشَّعْبِ اللُّبْنَانِيِّ الَّذِي أُمَثِّلُهُ فِي هَذِهِ الِاحْتِفَالَاتِ الْمَهِيبَةِ، أُقَدِّمُ هَذَا التَّاجَ لِيُوضَعَ، بِيَدَيْكَ الْمُبَارَكَتَيْنِ، عَلَى رَأْسِ وَالِدَةِ اللهِ الَّتِي نُحِبُّهَا وَنُكْرِمُهَا، وَالَّتِي نَعْهَدُ إِلَيْهَا بِحِرَاسَةِ بِلَادِنَا». عِنْدَهَا، تَقَدَّمَ أَمَامَ تِمْثَالِ «أُمِّ النُّورِ» جَمِيعُ الْكَرَادِلَةِ وَالْبَطَارِكَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ بِلِبَاسِهِمُ الْحِبْرِيِّ، يَتَقَدَّمُهُمُ الْكَرْدِينَال رُونْكَالِي، فَرَمَوْا عِصِيَّ الرِّعَايَةِ عِنْدَ أَقْدَامِ الْعَذْرَاءِ، وَهَتَفُوا لَهَا سُلْطَانَةً عَلَى لُبْنَانَ. ثُمَّ رَفَعَ الْمُوفَدُ الْبَابَوِيُّ بِيَدَيْهِ تَاجَ الذَّهَبِ، وَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِ تِمْثَالِ الْعَذْرَاءِ «أُمِّ النُّورِ»، فَارْتَفَعَتِ الْأَسْهُمُ النَّارِيَّةُ فِي سَمَاءِ بَيْرُوتَ، تَرْسُمُ اسْمَ «مَرْيَمَ» بِأَحْرُفٍ مِنْ نَارٍ وَنُورٍ.
البابا يُوحَنَّا بُولُس الثَّانِي
شَهِدَ مَزَارُ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ – حَرِيصا، عَبْرَ السِّنِينَ، احْتِفَالَاتٍ عَدِيدَةً وَمُتَنَوِّعَةً، غَيْرَ أَنَّ أَبْرَزَهَا وَأَبْهَجَهَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ أَيَّارَ عَامَ 1997، يَوْمَ أَشْرَقَتِ الرُّبُوعُ اللُّبْنَانِيَّةُ بِزِيَارَةِ قَدَاسَةِ الْحَبْرِ الْأَعْظَمِ الْبَابَا يُوحَنَّا بُولُسَ الثَّانِي، فَغَدَتْ حَرِيصا مَحَجًّا لِلْقُلُوبِ، وَمَسْرَحًا لِفَرَحٍ سَمَاوِيٍّ خُطَّ فِي ذَاكِرَةِ الْوَطَنِ.
وَقَبْلَ قُدُومِهِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَجَّهَ قَدَاسَتُهُ رِسَالَةً إِلَى «الْأَعَزَّاءِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ اللُّبْنَانِيِّينَ»، جَاءَ فِيهَا: «إِنَّ سَفَرِي إِلَى لُبْنَانَ سَيَكُونُ لِي حَجًّا إِلَى أَرْضِكُمُ الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْمِنْطَقَةِ الَّتِي دَاسَتْهَا رِجْلَا الْفَادِي مُنْذُ أَلْفَيْ عَامٍ. وَعَلَى مِثَالِ رُوحِ الزِّيَارَةِ الَّتِي قَامَ بِهَا يَسُوعُ إِلَى صُورَ وَصَيْدَا، فَإِنَّ لِزِيَارَتِي هَذِهِ هَدَفًا دِينِيًّا وَإِنْسَانِيًّا عَمِيقًا. سَأَحْتَفِلُ مَعَكُمْ بِالْمَرْحَلَةِ النِّهَائِيَّةِ لِسِينُودُسِ الْأَسَاقِفَةِ مِنْ أَجْلِ لُبْنَانَ، بِأَنْ أُقَدِّمَ لَكُمُ الْإِرْشَادَ الرَّسُولِيَّ ».
وَلَمْ يَكْتَفِ قَدَاسَتُهُ بِهَذَا النِّدَاءِ، بَلْ أَكَّدَ، لَدَى وُصُولِهِ إِلَى مَطَارِ بَيْرُوتَ، أَهَمِّيَّةَ اللِّقَاءِ الْمُنْتَظَرِ مَعَ الشَّبِيبَةِ فِي مَزَارِ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ، حَيْثُ سَيُوَقِّعُ الْإِرْشَادَ الرَّسُولِيَّ. وَكَانَتْ تِلْكَ الْمَرَّةُ الْأُولَى الَّتِي يُوَقِّعُ فِيهَا قَدَاسَتُهُ إِرْشَادًا رَسُولِيًّا خَارِجَ أَسْوَارِ الْفَاتِيكَانِ. وَمَا إِنْ أَطَلَّ مَسَاءُ السَّبْتِ، فِي الْعَاشِرِ مِنْ أَيَّارَ عَامَ 1997، حَتَّى تَحَوَّلَ مَزَارُ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ إِلَى بَحْرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، غَصَّتْ بِهِم الطُّرُقَاتُ وَالسَّاحَاتُ، وَامْتَلَأَتِ الْأَجْوَاءُ بِأَنْفَاسِ الرَّجَاءِ وَصَلَوَاتِ الْمَحَبَّةِ.
وَفِي الْمَوْعِدِ الْمُحَدَّدِ، دَخَلَ قَدَاسَتُهُ الْبَازِيلِيكَ وَسْطَ زَغَارِيدِ الْإِيمَانِ، وَفِي جَوٍّ مُهَابٍ امْتَزَجَ فِيهِ الْفَرَحُ بِالرَّهْبَةِ. وَبَعْدَ أَنْ حَيَّا الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْتَشِدِينَ فِي أَرْوِقَةِ الْكَنِيسَةِ، تَوَجَّهَ إِلَى الشُّرْفَةِ الْخَارِجِيَّةِ الْمُطِلَّةِ عَلَى سَاحَاتِ الْمَعْبَدِ، لِيُحَيِّيَ الْجَمَاهِيرَ الْمُنْتَظِرَةَ بِفَارِغِ الصَّبْرِ قُدُومَهُ. وَمَا إِنْ وَقَعَتْ عَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَحْرِ الْبَشَرِيِّ، الَّذِي فَاقَ عَدَدُهُ الْمِائَةَ وَالْخَمْسِينَ أَلْفًا، حَتَّى اتَّخَذَ قَرَارًا فَوْرِيًّا، مُتَخَطِّيًا الْمِنْهَاجَ وَالْبُرُوتُوكُولَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُخَاطِبَ الْجَمَاهِيرَ مِنْ عَلَى تِلْكَ الشُّرْفَةِ.
وَهُنَاكَ، مِنْ ذَاكَ الْمِنْبَرِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْبَاحَةِ الْخَارِجِيَّةِ، أَلْقَى كَلِمَتَهُ، مُتَحَرِّرًا غَيْرَ مَرَّةٍ مِنَ النَّصِّ الْفَرَنْسِيِّ الْمَكْتُوبِ، لِيُحَاوِرَ الشَّعْبَ، وَيُشَدِّدَ عَلَى بَعْضِ الْحَقَائِقِ، وَيُدْلِيَ بِمُلَاحَظَاتٍ حَمَلَتْ دِفْءَ الْقَلْبِ وَصِدْقَ الرِّسَالَةِ.
وَفِي خِتَامِ اللِّقَاءِ، وَقَّعَ قَدَاسَتُهُ الْإِرْشَادَ الرَّسُولِيَّ «رَجَاءٌ جَدِيدٌ لِلُبْنَانَ»، فِي مَشْهَدٍ اسْتِثْنَائِيٍّ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ نَوْعِهِ خَارِجَ الْفَاتِيكَانِ. فَكَانَ التَّوْقِيعُ فِي حَرِيصا بِمَثَابَةِ خَتْمٍ رُوحِيٍّ وَرِسَالَةٍ رَمْزِيَّةٍ أَرَادَ مِنْ خِلَالِهَا أَنْ يُكَرِّسَ لُبْنَانَ وَطَنًا لِلْعَيْشِ الْمُشْتَرَكِ، وَرَجَاءً حَيًّا لِلشَّرْقِ بِأَسْرِهِ.
بِنْدِكْتُوس السادس عشر
مَا هِيَ إِلَّا بُضْعُ سَنَوَاتٍ عَلَى الزِّيَارَةِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا قَدَاسَةُ الْبَابَا يُوحَنَّا بُولُسُ الثَّانِي إِلَى لُبْنَانَ، حَتَّى جَدَّدَ الْبَابَا بِنْدِكْتُسُ السَّادِسَ عَشَرَ التَّطَلُّعَ نَحْوَ الشَّرْقِ، فَدَعَا فِي تِشْرِينِ الْأَوَّلِ مِنْ عَامِ 2010 إِلَى انْعِقَادِ السِّينُودُسِ الْخَاصِّ بِأُسْقُفِيَّةِ الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ، وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ نَوْعِهِ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ.
وَفِي بَادِرَةٍ تَحْمِلُ رَمْزِيَّةً رُوحِيَّةً عَمِيقَةً، اخْتَارَ لُبْنَانَ لِيَكُونَ الْأَرْضَ الَّتِي يُوَقَّعُ فِيهَا الْإِرْشَادُ الرَّسُولِيُّ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا إِقْرَارًا بِدَوْرِ هَذَا الْوَطَنِ الصَّغِيرِ فِي الْجُغْرَافْيَا، الْكَبِيرِ فِي رِسَالَتِهِ، كَجِسْرٍ بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَكَمَنَارَةٍ لَا تَنْطَفِئُ فِي دُرُوبِ الْإِيمَانِ.
امْتَدَّتْ زِيَارَةُ قَدَاسَتِهِ إِلَى لُبْنَانَ مِنَ الرَّابِعِ عَشَرَ وَلِغَايَةِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ أَيْلُولَ. وَخِلَالَ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ، لَمْ يَكُنْ مَزَارُ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ مُدْرَجًا عَلَى جَدْوَلِ الزِّيَارَاتِ الرَّسْمِيَّةِ. وَلَكِنْ، وَمَعَ بُزُوغِ فَجْرِ يَوْمِ السَّبْتِ، قَرَّرَ قَدَاسَتُهُ أَنْ يُخَصِّصَ هَذَا الْمَقَامَ الْمَرْيَمِيَّ الْمُهَابَ بِزِيَارَةٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ. حَلَّ ضَيْفًا عَلَى مَزَارِ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ فِي حَرِيصا، ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّذِي يَعْلُو الْجَبَلَ شَامِخًا كَمَنَارَةٍ رُوحِيَّةٍ تُطِلُّ عَلَى الْوَطَنِ كُلِّهِ. تَقَدَّمَ نَحْوَ الْمَزَارِ وَسْطَ هُدُوءِ الْمُؤْمِنِينَ، حَيْثُ تَتَعَانَقُ السَّمَاءُ بِالْأَرْضِ فَوْقَ جَبَلِ حَرِيصا، وَتَغْمُرُ نَسَائِمُ الصَّبَاحِ الْمَكَانَ بِنَفَحَاتٍ مِنَ السَّلَامِ.
هُنَاكَ، أَمَامَ تِمْثَالِ الْعَذْرَاءِ، وَقَفَ قَدَاسَتُهُ مُتَأَمِّلًا هَذَا الصَّرْحَ الرُّوحِيَّ الَّذِي يُجَسِّدُ إِيمَانَ اللُّبْنَانِيِّينَ الْعَمِيقَ، وَارْتِبَاطَهُمُ الدَّائِمَ بِأُمِّهِمُ السَّمَاوِيَّةِ. فِي كَنِيسَةِ «أُمِّ النُّورِ»، احْتَفَلَ قَدَاسَتُهُ بِالذَّبِيحَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَسْطَ أَجْوَاءِ الْخُشُوعِ وَالتَّقْوَى.
وَفِي خِتَامِ الْقُدَّاسِ، قَدَّمَ لِلْمَزَارِ هَدِيَّةً رَمْزِيَّةً، تَمَثَّلَتْ فِي شَمْعَدَانٍ مُذَهَّبٍ، عَرْبُونَ مَحَبَّةٍ وَتَقْدِيرٍ لِهَذَا الْمَقَامِ الَّذِي يَعْبَقُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّارِيخِ.
غَادَرَ الْمَكَانَ مُتَأَمِّلًا مَا رَآهُ مِنْ عُمْقِ الْإِيمَانِ الْمُتَجَذِّرِ فِي قُلُوبِ اللُّبْنَانِيِّينَ، وَقَدْ تَرَكَتِ الزِّيَارَةُ فِي نَفْسِهِ أَثَرًا عَمِيقًا مِنَ الْفَرَحِ وَالْبَرَكَةِ.
لَاوُونُ الرَّابِعُ عَشَرَ
مَا إِنِ اعْتَلَى قَدَاسَةُ الْبَابَا لَاوُونُ السَّدَّةَ الْبُطْرُسِيَّةَ، حَتَّى عَبَّرَ عَنْ شَغَفِهِ الْعَمِيقِ بِزِيَارَةِ أَرْضِ الْأَرْزِ، تِلْكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَطِئَهَا السَّيِّدُ الْمَسِيحُ، كَمَا وَطِئَتْهَا أَقْدَمُ أَسْلَافِهِ؛ أَرْضٌ تَحْمِلُ فِي تُرَابِهَا ذَاكِرَةَ الْقَدَاسَةِ، وَفِي جِبَالِهَا صَلَاةَ الْأَجْيَالِ.
بَدَأَ الْعَدُّ الْعَكْسِيُّ، وَبَدَأَتِ التَّحْضِيرَاتُ لِاسْتِقْبَالِ رَسُولِ السَّلَامِ وَالْمَحَبَّةِ، حَامِلًا رَجَاءً جَدِيدًا إِلَى لُبْنَانَ فِي سَنَةِ الرَّجَاءِ لِوَطَنٍ كَادَ أَنْ يَخْتَنِقَ بِالْأَلَمِ وَيَفْقِدَ الْإِيمَانَ، لَوْلَا رَحْمَةُ السَّمَاءِ وَسَيِّدَةُ لُبْنَانَ، الْحَامِيَةُ وَالرَّاعِيَةُ، الَّتِي تَسْهَرُ بِعَيْنِ الْحَنَانِ عَلَى أَبْنَائِهَا، وَتَهْدِيهِمْ نُورَ الرَّجَاءِ وَسَطَ الْعَوَاصِفِ.
فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ هَذَا الْوَطَنِ، وَعَلَى طُرُقَاتِهِ الْمُبَلَّلَةِ بِتَارِيخِ الْإِيمَانِ وَالصَّبْرِ، تَنْبِضُ الْقُلُوبُ انْتِظَارًا لِلِّقَاءِ. وَالْأَيَادِي تَعْمَلُ بِصَمْتٍ وَوَقَارٍ، لِتُرَتِّبَ الْأَمَاكِنَ وَتُزَيِّنَ الْمَزَارَ، وَكَأَنَّ الْأَرْضَ نَفْسَهَا تَتَنَفَّسُ انْتِظَارًا لِهَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ، يَوْمِ تَلَاقِي السَّمَاءِ بِالْأَرْضِ فِي حِضْنِ الْعَذْرَاءِ.
الطُّرُقُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْمَزَارِ قَدْ أُعِدَّتْ بِعِنَايَةٍ، كَأَنَّهَا تُهَيِّئُ دَرْبًا مِنْ نُورٍ يَعْلُو نَحْوَ السَّمَاءِ. تُعَبِّدُهَا الْأَيَادِي بِإِخْلَاصٍ، وَتَزْدَانُ بِإِشَارَاتٍ تُرْشِدُ الْحُجَّاجَ وَالزُّوَّارَ، لِتُصْبِحَ رِحْلَتُهُمْ إِلَى اللِّقَاءِ رِحْلَةَ إِيمَانٍ وَسَلَامٍ تُظَلِّلُهَا الْمَحَبَّةُ وَيَقُودُهَا الشَّوْقُ.
فِي قَلْبِ الْمَزَارِ، تَتَأَهَّبُ الْمَنَصَّاتُ لِاسْتِقْبَالِ الْأَبِ الرُّوحِيِّ، وَيُرَتَّبُ مَقْعَدُ كُلِّ أُسْقُفٍ وَكُلِّ كَاهِنٍ وَكُلِّ مُؤْمِنٍ بِرُوحٍ مِنَ الِانْسِجَامِ وَالْجَمَالِ، حَيْثُ يَلْتَقِي الْبُرُوتُوكُولُ بِالْقَدَاسَةِ، وَالتَّنْظِيمُ بِالْخُشُوعِ. تَتَنَاغَمُ الْأَضْوَاءُ وَالصَّوْتِيَّاتُ لِتَبْلُغَ كُلَّ صَلَاةٍ وَنَجْوَى أَعْمَاقَ الْقُلُوبِ.
وَهُنَا يَتَّجِهُ الْمَشْهَدُ نَحْوَ تِمْثَالِ الْعَذْرَاءِ «إِمِّ النُّورِ»، الَّذِي نَحَتَهُ الْفَنَّانُ يُوسُفْ سَعْدَ اللهِ الْحَوَيْكُ سَنَةَ 1954، بِمُنَاسَبَةِ مُرُورِ خَمْسِينَ عَامًا عَلَى وَضْعِ حَجَرِ الْأَسَاسِ لِمَزَارِ سَيِّدَةِ لُبْنَانَ. هَذَا التِّمْثَالُ الْمُبَارَكُ جَابَ 426 قَرْيَةً وَمَدِينَةً لُبْنَانِيَّةً، حَامِلًا مَعَهُ الْبَرَكَةَ وَالنُّورَ، إِلَى أَنْ تُوِّجَهُ الْكَرْدِينَال أَنْجِلُو رُونْكَالِي، الَّذِي أَصْبَحَ فِيمَا بَعْدُ قَدَاسَةَ الْبَابَا يُوحَنَّا الثَّالِثَ وَالْعِشْرِينَ، بِتَاجٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وَالْيَوْمَ، يُكَرَّمُ التِّمْثَالُ مِنْ جَدِيدٍ، إِذْ يُقَدِّمُ لَهُ قَدَاسَةُ الْبَابَا لَاوُونُ الرَّابِعُ عَشَرَ، وَرْدَةً ذَهَبِيَّةً، رَمْزًا لِلْوَفَاءِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ.
أَمَّا الْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ، فَكَالْأَجْنِحَةِ الصَّامِتَةِ، تَحُومُ حَوْلَ الْمَكَانِ. يَسْهَرُ رِجَالُ الدِّفَاعِ الْمَدَنِيِّ وَالْإِسْعَافِ بِعُيُونٍ يَقِظَةٍ وَقُلُوبٍ مُطْمَئِنَّةٍ عَلَى حِمَايَةِ كُلِّ حَاضِرٍ، اسْتِعْدَادًا لِأَيِّ طَارِئٍ، لِيَبْقَى التَّرْكِيزُ عَلَى الرُّوحَانِيَّةِ، وَالْحَدَثُ مُكَرَّسًا لِلرُّوحَانِيَّةِ وَحْدَهَا: لِلسَّلَامِ وَالْوِئَامِ وَالْمَحَبَّةِ الْمُتَبَادَلَةِ.
فِي هَذَا اللِّقَاءِ الْمُبَارَكِ، سَوْفَ يَجْتَمِعُ الْمُكَرَّسُونَ وَالْمُكَرَّسَاتُ، حَامِلِينَ فِي قُلُوبِهِمْ نُذُورَهُمُ الْأُولَى، وَعُيُونُهُمْ شَاخِصَةٌ إِلَى سَيِّدَةِ لُبْنَانَ، وَآذَانُهُمْ مُصْغِيَةٌ لِكُلِّ كَلِمَةٍ يَنْطِقُ بِهَا الْأَبُ الْأَقْدَسُ، لِتَكُونَ زَادًا لِلطَّرِيقِ وَتَأَمُّلًا مُتَجَدِّدًا فِي دَعْوَتِهِمْ.
يَدْعُوهُمُ الْبَابَا لِيَكُونُوا شُهُودًا لِلسَّلَامِ فِي أَرْضٍ مَزَّقَتْهَا الْحُرُوبُ، وَأَنْ يَجْعَلُوا مِنْ حَيَاتِهِمْ مِرْآةً تَعْكِسُ وَجْهَ الْمَسِيحِ فِي وَسَطِ الْأَلَمِ وَالظُّلْمَةِ وَالِانْقِسَامِ، وَأَنْ يَكُونُوا رُسُلَ رَحْمَةٍ يَحْمِلُونَ مِشْعَلَ الْإِيمَانِ إِلَى الْقُلُوبِ الْمُثْقَلَةِ بِالْخَوْفِ وَالْيَأْسِ، وَأَنْ يَزْرَعُوا الرَّجَاءَ فِي حَيَاةِ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ الَّذِينَ أَنْهَكْتَهُمُ الْمِحَنُ.
وَهَكَذَا، فِي هَذَا اللِّقَاءِ الرُّوحِيِّ الْمُهَابِ، سَيُكْتَبُ فَصْلٌ جَدِيدٌ فِي تَارِيخِ لُبْنَانَ الرُّوحِيِّ، فَصْلٌ مِنَ السَّلَامِ وَاللِّقَاءِ وَالْمَحَبَّةِ، تُصْحِبُهُ أَنْغَامُ الرِّيحِ وَصَدَى الْأَجْرَاسِ، لِتُعْلِنَ مِنْ قَلْبِ حَرِيصا رِسَالَةً خَالِدَةً تَتَجَاوَزُ الْحُدُودَ وَالزَّمَنَ.

اترك تعليقاً