يميل إنسان اليوم إلى ملء فراغه بالضجيج: شاشات تومض، إشعارات تتراشق، وموسيقى تُعَدُّ خلفيّة في كل مكان. غير أنّ هذا السعي المحموم إلى الهرب من الصمت يكشف في العمق عن خوفٍ من مواجهة الذات ومواجهة الأسئلة التي لا يقدر الصخب أن يطمسها إلى الأبد. في خضمّ هذا الواقع يطلّ صمت يسوع كمرآة حادّة وزادٍ روحيّ في آن، لأنه يكشف لنا وجهاً لله يختلف جذريّاً عمّا نتوقّعه ويربّي فينا حاسة الإصغاء إلى ما هو أعمق من الكلمات.
في الأناجيل لا يظهر الصمت مجرّد هامش للخطاب، بل يصبح لغةً قائمة بذاتها. عندما يصمت يسوع أمام أسئلة الفرّيسيّين الماكرة أو أمام فضول هيرودس الاستعراضي (لوقا ٢٣: ٨ -١١)، يفضح خواء الأسئلة ويعيد المتلقّي إلى نيّته الأصليّة: هل أبحث حقاً عن الحقّ، أم عن تسلية روحيّة رخيصة؟ وحين يفرض الصمت على الشيطان أو على من شُفوا من أمراضهم، يذكّرنا بأنّ كشف سرّ الله قبل أوانه يفرغ الحدث من قدرته التربويّة. فالصليب وحده، لا العجيبة المُبهرة، هو المكان الذي تتجلّى فيه المسحة المسيانيّة في كامل أبعادها.
غير أنّ أعمق أشكال الصمت تظهر في قصّة لعازر (يوحنا ١١) وفي بستان جثسيماني (مرقس ١٤: ٣٢ – ٤٣). أمام مرض الصديق الحبيب، يبدو يسوع لوهلة غير مبالٍ؛ يتأخّر عمداً في المجيء، فتتحوّل صرخة الأختين إلى فراغ يئنّ. هذا الصمت، الذي قد نحتار أمامه، يطرح سؤالاً قلَقاً: هل يمكن للإله الحقّ أن يتصرّف على غير استجابتنا المتوقَّعة؟ الأناجيل تجيب بنعم شُجاعة: لأنّ غاية الحبّ ليست إلغاء الألم بل عبوره إلى قيامة جديدة. صمت يسوع ليس لامبالاة، بل فسحة يتيحها للثكلى كي يختبرن هشاشتهنّ ويجهزن لاستقبال مجدٍ يفوق أسئلة الساعة الأولى.
في جثسيماني يتصاعد الأمر إلى ذروته: التلاميذ نيام، والسماء صماء، والعرق يمتزج بالدم. خمس نداءات يرفعها يسوع ولا يسمع جواباً؛ ومع ذلك ينتهي المشهد بقيامته الداخليّة: «قوموا، لنذهب». هنا يصير الصمت رفضاً لابتزاز المعجزة وقبولاً حرّاً لدراما التاريخ. الآب يتكلّم بلا كلمة، مُعطيًا الابن شجاعة اجتياز الموت لا تفاديه.
لِمَ يهمّنا هذا كلّه نحن أبناء القرن الحادي والعشرين؟ لأنّ صمت يسوع يعلّمنا فنّ التمييز بين الصمت العقيم والصمت الخلّاق. الأوّل هو هروب متكبّر، انسحاب يغلق القلب. أمّا الثاني، فهو فضاء إنصات تتحرّر فيه الكلمة من نزعة التبرير الدفاعي لتصبح اعترافاً صادقاً بما نحن عليه. حين نصمت بهذه الروح نتدرّب على مقاومة العنف اللفظيّ، وعلى الإصغاء إلى النداء الإلهيّ القابع خلف الأسئلة غير المجابة في حياتنا: لماذا الألم؟ لماذا يُبطئ الله أحياناً؟ أين هو حين نصارع وحدنا؟
إنّ خبرة الصمت تقودنا أيضاً إلى قراءة جديدة لسلطة الكلمة. لقد أظهر يسوع أن الكلمة التي لا تخرج من رحم الإصغاء، ولا تُختَبر على محكّ الصمت، تتحوّل إلى أداة قمع أو استعراض. أمّا الكلمة المولودة من صمتٍ مصغٍ فإنّها تجلب حرّية، وتفتح أفقاً، وقد تُقال أحياناً على هيئة فعل أو نظرة أو مجرّد حضور متعاطف.
ختاماً، ليس صمت يسوع تمجيدًا للسكوت بذاته، بل اكتشاف كيف يصبح الصمت لغةً تعبّر عن أعمق ما في الله وأعمق ما في الإنسان. إن تجرّأنا على سلوك هذا الطريق، سنرى أن السؤال الذي يزعجنا اليوم قد يكون باباً لحوارٍ إلهيّ بلا كلمات، وأنّ ضوضاء العالم، مهما علا صخبها، لن تطغى على الهمس الذي يخلق من الفوضى كَوْناً جديداً.
المطران سعد سيروب حنا