عندما تتحول الأعلام إلى أسلحة: مرثاة مسيحي عربي في يوم القدس

You are currently viewing عندما تتحول الأعلام إلى أسلحة: مرثاة مسيحي عربي في يوم القدس
 سايمون أزازيان-
يوم أمس في القدس، غمرت الشوارع بالأعلام الزرقاء والبيضاء، بالهتافات، بالأناشيد… وبالكراهية. ما تسميه الدولة الإسرائيلية “بيوم القدس” هو، بالنسبة لكثير منا الفلسطينيين، يوم إذلال وقهر. فهو لا يُجسّد “توحيد” المدينة، بل “ضمّ” القدس الشرقية إلى الغربية في عام 1967 – وهو عمل غير قانوني يدينه القانون الدولي. وفي كل عام، يتحول هذا اليوم المشؤوم إلى مشهد عنيف ومؤلم. وكما في أعوام سابقة، جلب هذا العام ايضاً جرعة اضافية من الترهيب والعنصرية والإساءة – كل ذلك باسم الله.
بصفتي مسيحيًا أرمنيًا-عربيًا، شاهدت المشهد بحزن وغضب. أكتب اليوم ليس فقط من منطلق الظلم السياسي، بل من ألم روحي، خاصة عندما أرى بعض الخدمات المسيانية تحتفل بهذا اليوم، متجاهلة – أو منكرة – المعاناة التي يسببها لأمثالي، ولجيراني، ولمجتمعي.
موكب استفزاز لا احتفال
يمرّ موكب الأعلام عبر الحي الإسلامي في البلدة القديمة، ليس مصادفةً، بل عمدًا. آلاف من شباب الصهيونية الدينية، كثير منهم من مستوطنات متطرفة داخل الضفة الغربية، يجتاحون الشوارع مرددين: “الموت للعرب”، “لتحترق قريتكم”، وغيرها من الشتائم التي لا أريد تكرارها او ذكرها. يتم البصق على أصحاب المحلات، التحرش بالنساء، ويُدفع المقدسيون إلى داخل بيوتهم ويُغلق عليهم – “لدواعٍ أمنية”، كما تدعي السلطات التي تحمي الموكب بدلاً من حماية الضحية.
ليس كل الإسرائيليين يحتفلون
من المهم أن نُشير إلى أن كثيرًا من الإسرائيليين – علمانيين، يساريين، وحتى بعض المتدينين – يشعرون بالاشمئزاز مما أصبح عليه هذا اليوم. بعضهم يحتج، وبعضهم يندب، فهنالك أصوات ضمير داخل المجتمع الإسرائيلي تدرك أن هذا التفاخر القومي المقزز يدمّر أي أمل في العدالة أو السلام.
لكن تلك الأصوات تُغرقها طبول وهتافات الكراهية… وكما هو الحال دائمًا، يبقى الفلسطينيون – ومن ضمنهم المسيحيون الفلسطينيون – يشعرون بأنهم غرباء عُزّل في مدينتهم الحبيبة.
وغزة في الخلفية تحترق
وبينما ترفرف هذه الأعلام في القدس، تنزف غزة.
منذ تشرين الأول، قُتل ما يقارب 54,000 فلسطيني – معظمهم من المدنيين، وكثير منهم أطفال. أحياءاً كاملة تحوّلت إلى أنقاض. أمهات يحفرن بأيديهن للعثور على أبنائهن تحت الأنقاض. يُستخدم الجوع كسلاح، والعالم، بما في ذلك جزء كبير من الكنائس الغربية، تدير وجهها.
ليس تناقضًا أن مسيرة الاعلام المستفزة في القدس تأتي بينما غرة تحت القصف، بل إن هذا انعكاس لنفس المنطق: قوتنا المفرطة مقابل صمتكم… أرضنا مقابل محوكم.
هذا ليس روح الإنجيل… بل هو منطق الإمبراطوريات.
حين تنضم الكنيسة إلى الموكب
لكن أكثر ما آلمني هذا العام لم يكن فقط الهتافات في البلدة القديمة – بل الفرح الذي رأيته على وجوه بعض المسيحيين الغربيين والمسيانيين الذين يحتفلون بهذا اليوم. خدمات كنت أكن لها الاحترام شاركت مقاطع رقص وغناء، حيث كتبوا على صفحاتهم: “وعود الله تحققت”و “القدس استُعيدت”…
استُعيدت لمن؟ ليس لي، ولا لشعبي، ولا للجائع في غزة، ولا للعائلة المحاصَرة في الشيخ جراح، ولا للأم التي ضُرب ابنها خلال المسيرة أمس.
بكل صراحة، حين تهلل الكنائس للغزو وتتجاهل نعمة الصليب، فإنها تخون دعوتها… وحين تبارك الظلم باسم الله، تُدنّس اسمه القدوس.
ما الذي يقوله الإنجيل حقًا؟
الكتاب المقدس لا يقف مع الإمبراطوريات، بل مع المظلومين:
• بكى يسوع على أورشليم (لوقا 19: 41–44) لأنها “لم تعرف ما هو لسلامها”.
• يدعونا ميخا 6:8 أن “نُجري الحق ونحب الرحمة ونسلك متواضعين”.
• إشعياء 1 يرفض الأعياد الدينية حين تُقام وسط الظلم.
• متى 25 يذكرنا أن ما نفعله لأصغر الإخوة كأنما نفعله للمسيح نفسه.
الصوت الحقيقي للكتاب المقدس لا يُسمع في مسيرات القوة والاستعراض كهذه، بل في أعمال الرحمة الصامتة.
“قريب هو الرب من المنكسري القلوب.” (مزمور 34: 18)
“أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتواضعين.” (لوقا 1: 52)
“اقضوا للمظلوم.” (إشعياء 1: 17)
الإنجيل الحقيقي لا يتعاطف مع مسيرة أعلام، بل يقف مع المتروكين والمأسورين.
لا مع مواكب الغلبة، بل مع من يعيشون تحت القهر.
لا مع لاهوت السياسة، بل مع محبة المصلوب.
إيماني يعلّمني أن الفرح بلا عدالة هو فراغ.
وأن النبوّة بلا محبة هي ضوضاء.
وأي احتفال يتجاهل الألم قد فقد قلب الله.
إلى إخوتي وأخواتي في الكنائس العالمية:
• هذا وقت الوقوف مع المظلومين، لا وقت تشجيع الأقوياء.
• هذا وقت الصلاة وطلب رب السلام، بدموع، وانكسار، وتوبة.
• هذا وقت لنسأل: “ملكوت من نبني؟”
أورشليم جديدة
هناك أورشليم أخرى…
ليست محكومة بالحواجز ولا بمسيرات الأعلام، بل يسكنها ويغمرها حضور الله.
أورشليم تُمسح فيها الدموع، وتتدفق فيها العدالة كالنهر،
وتتحوّل فيها السيوف إلى محاريث،
وتُرحب بجميع الشعوب، وفيها شفاء، وفيها معنى الحب.
تلك هي أورشليم التي أشتاق إليها.
ذلك هو الملكوت الذي أنتمي إليه.
“صلّوا لأجل السلام (الحقيقي) لأورشليم.”

اترك تعليقاً