عيد إرتفاع الصليب

You are currently viewing عيد إرتفاع الصليب

الخوري نسيم قسطون:

في صمت القلب، حيث لا زينة ولا ضجيج، يُطرح السؤال الأعمق: هل نحن حقًا حاضرون في الأعياد؟ لا بجسدٍ يزور كنائس أو يتبادل التهاني، بل بروحٍ تبحث عن وجه الربّ وتتوق إلى لقائه؟ اليونانيون في الإنجيل لم يأتوا لمشاهدة طقس أو لالتقاط صورة تذكارية، بل “لِيَسْجُدُوا”. هذا الفعل البسيط، العميق، هو ما يغيب عنا وسط بهرجة العيد وانشغالاته. السجود ليس انحناء الجسد فحسب، بل استسلام القلب، وتسليم الإرادة، واعترافٌ صامت بأنّ هناك من يستحقّ كلّ شيء، حتى حين لا نفهم، وحتى حين لا نُكافأ ظاهريًا.

في زمن الصليب، لا يُدعى المؤمن ليتأمل أداة عذاب، بل ليكتشف فيها لغز الحبّ الأعظم: أن يموت الواحد لينبت الآلاف. حبة القمح لا تُدفن كعقاب، بل كدعوة. موتُها ليس نهاية، بل ولادة. وهكذا كان المسيح: لم يُرفع على الصليب ليُهان، بل ليُمجّد — مجدًا لا يعرفه العالم، مجدًا يُبنى على التنازل، لا على السيطرة؛ على العطاء، لا على الأخذ. والسؤال الذي يُطرح علينا اليوم ليس نظريًا: إذا كان هو الحبّة التي ماتت، فأين ثمارها؟ أين نحن في هذه السلسلة الحيّة التي لا تنقطع؟

ليس المطلوب منا أن نكون أبطالًا أو قديسين من طراز خاص، بل أن نكون أوفياء لطبيعتنا: ثمارًا تحمل في داخلها البذرة ذاتها. البعض ينمو بثقة، فيُثمر وفرةً، لكنه مدعوٌ إلى المثابرة كي لا يجفّ. والبعض الآخر يُعرض عن النمو، كأنه يرفض أن يُدفن، فيبقى وحيدًا، بلا طعم ولا رائحة. وهناك من يخاف — يخاف الألم، يخاف الفشل، يخاف أن يُساء فهمه، يخاف أن يُستغلّ — فيجمد في مكانه، كأنه ينتظر ظروفًا مثالية لن تأتي أبدًا. لكن الربّ لا يطلب منا الكمال، بل الشجاعة. الشجاعة أن نُدفن، أن نُخاطر، أن نُعطي حتى لو لم نرَ الثمرة فورًا.

الصليب ليس رمز عذاب، بل رمز حرية. حرية من أنانيتنا، من خوفنا، من عبوديتنا للذات. حين رُفع المسيح، لم يُطرد منه العالم، بل طُرد منه سلطان الشرّ. هذا هو الخبر السار: أنّ الذي يرفع الصليب في قلبه، لا يحمل عبئًا، بل يحمل انتصارًا. انتصارًا يبدأ حين نتوقف عن استخدام الصليب كشعار أو زينة، ونبدأ في عيشه كموقف: موقف محبة لا شرطية، موقف عطاء بلا حساب، موقف ثقة حين ينهار كلّ شيء.

لا تستهن بنفسك. فيك من النور ما يكفي لإنارة طريقٍ لشخصٍ آخر. فيك من الخبرة ما يُجنّب غيرك سقوطًا مررتَ به. لا تكن بخيلًا على من حولك بمحبتك، بصلواتك، بابتسامتك، بوقتك. ففي كلّ فعل صغير، تُنبت حبة قمح جديدة. وكلّ حبة، مهما صغرت، تحمل في طيّاتها وعد القيامة.

هل نحن مستعدون؟ ليس للكلام، بل للدفن. ليس للظهور، بل للعطاء. ليس للخوف، بل للثقة. لأنّ من يُدفن مع المسيح، سيقوم معه أيضًا.

كلّ عيد وأنتم بخير!

اترك تعليقاً