الخوري نسيم قسطون:
في تأمّلنا اليوم، نتوقّف عند تلك اللحظة العميقة حين حمل يوسف ومريم طفلهما يسوع إلى الهيكل، تقدمةً للربّ وفق مقتضيات الشريعة.
هذا المشهد الّذي يبدو بسيطًا يحمل في طيّاته معانٍ روحيّة عميقة ودروسًا لنا جميعًا.
إنّه لقاء بين الطاعة والحرية، بين الفقر والغنى، وبين البشر والخالق. يوسف ومريم، رغم معرفتهما بهويّة الطفل الإلهيّ، لم يرفضا الالتزام بما تفرضه الشريعة، بل انطلقا في مسيرة الطاعة بتواضع وحبّ، مانحين إيّانا مثالًا للثقة بمشيئة الله.
في زمنٍ نُعرّف فيه الحرية غالبًا بالتمرّد على القواعد وتجاوز الحدود، نجد في تصرّف العائلة المقدّسة درسًا يتحدّانا.
الحريّة الحقيقية لا تعني التفلّت من أيّ التزام، بل هي اختيار واعٍ ينبع من إرادة محبّة. يوسف ومريم اختارا أن يقدّما ابنهما وفق الشريعة، ليس لأنّهما مُجبَرَين، بل لأنّهما يعلمان أنّ الطاعة للربّ تقود إلى حرّية أعظم، تلك التي تحرّر النفس من قيود الكبرياء والأنانيّة.
كم من مرّة نجد أنفسنا نُهمل صوت الربّ في حياتنا، منشغلين بما نعتبره أولويّات دنيويّة! نمتنع عن فتح قلوبنا لحضوره في الإفخارستيا أو كلمته المقدّسة بحججٍ شتّى، وكأنّنا نقول له: “ليس الآن يا ربّ، هناك ما هو أهمّ.” لكن مَن منّا يستطيع أن يزعم أنّ هناك غذاءً أعظم لنفوسنا من حضور الربّ؟ هل يمكن لأيّ شيء في هذا العالم أن يشبع عطشنا للحقّ والسلام كما يفعل الله نفسه؟
عندما ندرك فقر العائلة المقدّسة، التي قدّمت فرخي حمام بدل الحمل بسبب بساطة مواردها، نتعلّم أنّ القرب من الله لا يتطلّب الغنى المادّي. إنّه يتطلّب فقط قلبًا مُستعدًّا للتقديم، مهما كان بسيطًا. إنّ الربّ ينظر إلى ما في قلوبنا، لا إلى حجم عطايانا. في ذلك الفقر المادّي تكمن قوّة غنى الروح، وفي البساطة تبرز عظمة القلب.
كما أنّ سمعان الشيخ، الذي أُوحي إليه بأنّه لن يرى الموت قبل أن يعاين المسيح، يذكّرنا نحن اليوم بدعوة خاصّة: الربّ حاضرٌ بيننا دائمًا، في القربان المقدّس وفي كلمته. نحن لا نحتاج إلى انتظار وحيٍ أو رؤيةٍ خاصة لنلتقيه؛ يكفي أن نفتح عيون قلوبنا. ومع ذلك، كثيرًا ما نفشل في استيعاب هذا الامتياز الذي يميّزنا، فنسمح للروتين بأن يُطفئ شعلة الفرح والدهشة التي ترافق اللقاء بالربّ.
يستفزّنا هذا المشهد أيضًا لنطرح على أنفسنا أسئلة صعبة: هل قلوبنا جاهزة لتكون هيكلًا للربّ؟ أم أنّها باتت مشغولةً بهموم العالم ومشاريعه؟ هيكل الربّ لا يقتصر على مكانٍ ماديّ، بل هو حياتنا نفسها، قلوبنا التي يسكنها النور حين نفتحها له. إذا كان الربّ مستعدًا أن يأتي إلينا، رغم أنّنا في كثير من الأحيان نغلق الأبواب في وجهه، فهل نحن مستعدّون أن نقدّم له حياتنا كاملةً، لا مجرّد فتاتٍ منها؟
يدعونا هذا النصّ إلى التوقّف والتأمّل بعمق. إنّ طاعة يوسف ومريم تُلهمنا أن نسير على خطاهما، ليس كخضوعٍ قسريّ، بل كاستجابةٍ حرة نابعة من الحبّ. فكما قال الربّ: “الحقّ يحرّركم.” طاعتنا ليست عبوديّة، بل هي بابٌ للحرية الحقيقية التي تتحقّق عندما نسلّم حياتنا لمشيئته.
اليوم، كما في كلّ يوم، يدعونا الربّ إلى لقائه. إنّ حضوره ليس حدثًا ننتظره مرّة واحدة، بل هو لقاء دائم يتجدّد في كلّ لحظة نصغي فيها لكلمته أو نقبله في سرّ القربان. فلنغتنم هذه الفرصة، ولنطلب من الروح القدس أن يجعل قلوبنا مضيئةً، قادرة على استقبال النور الإلهي، كما دعانا التقليد القديم في كلماتٍ صادقة: “لنكن شموعًا مضيئةً تُنير العالم بحضور المسيح فينا.”
فلنخطُ اليوم خطوة نحو هذا اللقاء الصادق. لنضع جانبًا كبرياءنا، مشاغلنا، وكلّ ما يُبعدنا عن الله. ولنسمح للربّ أن يدخل إلى حياتنا، لا كضيفٍ عابر، بل كسيّدٍ مقيم. حينئذٍ فقط، سنختبر عمق الفرح والسلام اللذين يتخطّيان كلّ فهم بشري.
