د. عماد يونس فغالي-
لأجل المفهوم السائد، اعتقادُ الجسد أداةَ تباعد عن الارتقاء. الجسد يحملُ الشهوةَ المعتبَرة سلبًا انحطاطًا. ويحملُ “الخطيئة” التدفعه إليها شهوته. الجسدُ في اختصار يُقصي الله ويُبعد عنه!
وإنْ يُردِ امرؤٌ أو مؤمنٌ “لقاءَ” الله، يُضعفْ جسدَه ويقهرْه. وهذا في اعتقاد العامّة بطولة. بقدْر ما نخفّف وطأةَ جسدِنا، تقوى قدراتُ الروح فينا، فنتقدّس!
ولكن، هل هذا هو لاهوتُ الجسد في الفكر المسيحيّ حقًّا؟ هل خُلق الجسد ليكون لعنةً على الإنسان؟ وماذا عن التجسّد؟ أمَا سرُّ حلولِ الشخص الإلهيّ في الجسد؟
“لنخلُقنّ الإنسان على صورتنا كمثالنا”، قال الكتابُ بلسان الله، الذي أرادها صورته جسدًا كاملاً “ذكرًا وأنثى خلقهما…” هذا في الخلق، وفي التجسّد، أخذ الله، الروح المحض، من الإنسانِ جسدًا، جسدَه في ملء، وبه حقّق خلاصَه فعلاً ذبيحًا، قياميَّ الحياة، يعيدُها للناس وافرة بفيض!
إنْ نقفْ في لاهوت، نكتفِ بجسدٍ اتّخذه الله طبيعةً له إلى طبيعته الله! لاقى الله إنسانَه في الجسد، ما ضرّ الإنسانَ يلتقي الله بجسده؟
الضعفُ البشريّ يكمن في الجسد، يعبّر عنه الجسد. يبتعدُ المؤمن عن الله بجسده، الذي تقوى قدراتُه فلا يطلبُ الله بعد. والإيمان يعبّر عنه صاحبُه بالممارسة، الجسدُ يقوم بها. الخدمةُ الأسراريّة ماديّةُ الظاهر، يلقاها المؤمن بجسده اليطهر باقتبال الأسرار. تدفعنا المعادلةُ هذه إلى اعتبار الجسد العنصرَ المحور فيها، قوّةً أو ضعفًا. ما يأخذنا إلى مقاربةٍ جديدة، تطرحُ قوّةَ الجسدِ في فعلَي الإيمان والقداسة. بتعبيرٍ آخر، نصلُ اللهَ من دون إضعاف الجسد وقهره. قد يُقال إنّ شهوةَ الجسد تمنع المؤمن من تقديس نفسه. أقول إن يشتهِ أمرًا حسنًا، يبتعدْ عن عيشِ الإيمان؟ وأيضًا، المؤمن لا يقتبلُ الوسائلَ الخلاصيّة إلاّ من خلال جسده. إذًا الجسدُ أداة إيمانٍ وسبيل خلاص. وتطالعنا الخبرات الكنسيّة بقدّيسين حسبوا لحياتهم الشخصيّة والعائليّة خصوصًا، كلَّ اعتبار… فما بخلوا بعيش حبٍّ وإكثارٍ في الإنجاب قط، وتقدّسوا من خلال ممارستهم الحياة الجسديّة في ملء. نعم، خبراتُ قدّيسين أماتوا جسدَهم في سبيل الملكوت، اعتُبروا أبطالاً في ما أتَوا. هؤلاء اختاروا حياةَ التبتّل والنسك، كان جسدُهم عثرةً أمام سعيهم إلى القداسة، فنبذوه. طوباهم. ما يؤكّد أنّ هذا سعيٌ، وسيلة. الطرق المؤدّية إلى الهدف متعدّدة، المهمّ يكون الوصول سالمًا ومرجوًّا.
عندما نتكلّم على لاهوت الجسد، نقاربه بالخطيئة. في ظنّ المتكلّم، الجسدُ للخطيئة فينزاحُ عن مفهوم اللاهوت. لاهوت الجسد هو مقاربة الجسد كعلاقته بالله. معنى هذا، للجسد لاهوتُه… وهو جسدٌ إله، على صورة الله ومثاله أيضًا.
يتكلّم البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني على “العري المقدّس”، الكان في أبوَي البشريّة قبل الخطيئة. كانا عاريين أمام الله وبعضهما البعض، دون حياءٍ أو استغراب. بعد الخطيئة، وجدا نفسيهما عاريَين ينتابهما شعورٌ بالعار. فراحا يستران “عريهما”، قصد إبعاد الله عن كشف عارهما. نعم، جميلٌ ما جاء على لسان البابا القدّيس. وفي المفهوم المسيحيّ، عريٌ مقدّس، يوحّد الجسدين في العمل الزوجيّ اليشترك في حبّ الله وعمليّة الخلق. الجسدُ إذًا هو صلب العمل الأسراريّ، وسيلةُ خلاصٍ وقداسة.
من هنا، لا نرُحْ إلى اعتقادٍ بدونيّةِ الجسد، وحاجته إلى إضعاف لتقوى فيه الروح. الجسد كما الروح خلقٌ كامل وجميل. إن نبحثْ فيه عن لاهوت، يكفِنا أنّ الله أحبّه وأخذه في طبيعته البشريّة وحقّق فيه فداءَ العالم. في ناحيةٍ أخرى، ليس الألم ضرورةً لقداسة الجسد. الصحّة الجسديّة الكاملة والحفاظُ عليها اكتمالُ لاهوتٍ، لأنّها عطيّةُ الله الجميلة…!!
أطلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني تسمية “لاهوت الجسد”، لتفتحَ إشكاليّةً في المفهوم الكنسيّ المتوارَث. لكنّه أرسى تصويبًا فاعلاً في الفكر الملتوي عقائديًّا وأدبيًّا، كم آذى الضمير المسيحيّ في مقاربته المسلكيّة على المستويات الكنسيّة، العالية خصوصًا!
حسبُ الفكر يركبُ مركبَ الله دائمًا، فيعلو بالإنسانِ في فضاءات النور، ويتحلّى بفيضِ الملء إنسانًا برتبةِ الله!
Share via:
