حسام محي الدين-
العزلة هي العودة إلى البساطة التي تسبقُ الفلسفة فيها لا نحتاج إلى إجاباتٍ عظيمة، بل إلى أسئلةٍ صغيرة تفتحُ
أبوابَ الدهشة
فلكما تعمقت في النفس البشرية وضجيج أصواتها اقتنعت أكثر بالعزلة ذلك الهُدوءٌ الذي يفضحُ ضجيج العالم
فالوحدةُ ليست فراغًا، بل هي امتلاءٌ بالذات الحقيقية
التي تختفي في زحام الأقنعة. حين تجلسُ مع نفسك في صمت، تكتشف أنك لستَ “من” تُفكّر، بل أنك كينونةٌ تشهدُ الأفكارَ كسحبٍ عابرة.
الشاعر ريلكه كتب: “العزلةُ هي الطريقُ من كل شيءٍ إلى كل شيء”.
في الوحدة، تتحول الحياةُ إلى مراسيمَ صوفية: شُربُ القهوة، سماعُ خرير الماء، لمسُ تراب الأرض… كلُّها طقوسٌ تُعيدك إلى جذرِك الأزلي.
أما “الاختلاط” في عالم البشر، فهو مسرحٌ تُلقى فيه أدوارٌ مكتوبةٌ سلفًا: أن تبتسمَ حين يجب، أن تُدينَ ما يُدان، أن تتحدثَ بلغةٍ ليست لغتك. الصورُ على الشاشات ليست إلا أشباحًا تُرقصنا على أنغام الغرور.
المخرج الوحيد هو اللحظة الحاضرة: الملكوتُ الذي نجهله
الماضي ذكرياتٌ مُزيَّفة، والمستقبل أوهامٌ مُعلَّقة.
أما الآن، فهو الملكوتُ الذي نعبره مئات المرات
يوميًا دون أن ننتبه.
في حضرة اللحظة، تصير التفاحةُ التي تأكلها مُعجزةً كونية، والنسيمُ الذي يلمسُ وجهك رسالةً من الإله. الحيواناتُ تعرف هذا السرَّ غريزيًّا، لذلك لا تحتاج إلى تأملاتٍ لتصيرَ حكيمة.
فالحيوانات مرايا الصفاء في عالم البشر المشوَّش
تعيش في حضرة اللحظة، كأنها تقرأ كتاب الكون
دون أن تعلقَ في حروفه.
الكلب الذي يلهث عند قدميك لا يسأل عن معنى الوجود، والقطة التي تحتضن الشمس لا تشتكي من قلق الموت.
في عينَي حصانٍ عجوز، تجدُ براءةَ العالم قبل أن يُلوِّثه الإنسانُ بِفَلسفتِه. لو سألت طائرًا: “من أنا؟” لطار مبتسمًا،
لأن السؤال نفسه هو الجحيم.
فالعقل ياصديقي يخدعنا بأنه يحكم، بينما هو يرقص على إيقاعِ لاوعيٍ أعمق. فحين نعيش في دوامة الأفكار، نصير كمن يسبح في محيطٍ بلا شاطئ، نلهث وراء معنىً يفرُّ منا كالسراب. لكن الحيوانات، تلك الكائنات التي لا تُجادلُ في الميتافيزيقا، تُذكِّرنا بأن الحياةَ ليست مسألةً تُحلُّ، بل لغزًا يُعاش.
فالحياةُ ليست مشكلةً نُصلحها بالعقل، بل رقصةٌ نرقصها بالقلب. كما قال الحكيم لاوتزو: “العقلُ المثالي كالماء: ينسابُ دون شكل، يروي دون جهد، يعكسُ الكونَ دون أن يمتلكه.”
فلنشربْ من نبعِ اللحظة، ولنتركْ وراءنا أوهامَ العقل…
فالحقيقةُ ليست في الكتب، بل في صمتِ كلبٍ نائم تحت شجرة.