الخوري نسيم قسطون:
تكرّس الكنيسة المارونيّة أحدين تمهيديين لزمن الميلاد وهما أحد تقديس البيعة وأحد تجديد البيعة، واللذان قد يجتمعا سويّة في أحدٍ واحد، في بعض السنوات، وفقاً لعدد الآحاد ما بين الأوّل من تشرين الثاني ويوم عيد الميلاد.
في مطلع إنجيل اليوم (متى16/13-20(، يرد ذكر قيصريّة فيليبُّس الّتي كانت تمثّل نقطة تلاقٍ بين ثقافات مختلفة، إذ كان غالبية سكانها من الوثنييّن الّذين نبذهم اليهود.
يعكس اختيار يسوع لهذه المدينة لإعلان هويته أهمية هذه الرسالة، التي تخاطب جميع البشر دون استثناء، داعيةً إياهم نحو القداسة. إنّ إعلان يسوع نفسه في هذا المكان يذكّرنا بأن الخلاص ليس حكرًا على مجموعة معينة، بل هو دعوةٌ شاملةٌ لكلّ من يفتح قلبه لتلقّي محبة الله.
في سياق متصل، يتجلى في إنجيل اليوم معنًى عميق يتمثّل في السؤال الّذي طرحه يسوع على تلاميذه: “مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟”.
هذا السؤال يتيح لنا استكشاف أعماق العلاقة التي تربطنا بالرب:
- هل نجيب بناءً على ما سمعناه من الآخرين أو من تقاليد متداولة،
- أم إنّنا نجيب من صميم قلوبنا؟
إن معرفة الربّ يسوع تتجاوز المعلومات السطحية؛ إنها تتطلب تواصلاً عميقاً مع شخصه، والتجربة الحقيقية لمحبتهم.
كثيرًا ما نعيش في عالم تسود فيه آراء الآخرين، فنجد أنفسنا نحدّد هويتنا بناءً على ما يتوقعه المجتمع منا. كم من مرةٍ أسأنا تقدير أنفسنا أو تجاهلنا قدراتنا الحقيقية بسبب هذه الضغوط؟
إن إدراكنا لكوننا محبوبين من الله، كما نحن، يمنحنا الحرية لتطوير شخصياتنا بناءً على دعوة الله لنا. كما يذكّرنا الإنجيل بأن لكل منا مفاتيحًا هامّةً في حياته، سواء كانت عائلته، عمله، أو دراسته، ويطرح تساؤلات حول أمانتنا في التعامل مع هذه المفاتيح!
يستفزّنا الإنجيل للنظر إلى كيفية استخدامنا لهذه المفاتيح. هل نحافظ على أمانتها وندرك قيمتها؟ هذه التساؤلات لا تعود فقط إلى واجبنا كأفراد، بل هي أيضًا دعوة لتجديد علاقتنا مع الله، إذ كلما كنا صادقين مع أنفسنا ومعه، اقتربنا أكثر من القداسة. فالقداسة ليست غاية بعيدة، بل هي عملية مستمرة تتطلب منا صدقًا في التعامل مع ذواتنا ومع الآخرين.
في الإنجيل، نجد أنّ يسوع، الّذي أوصانا بإخفاء هويّته قبل قيامته، يدعونا اليوم إلى الإعلان عن إيماننا بشجاعة. عندما نكون أبناء القيامة، تصبح دعوتنا واضحة: أن نكون رسلًا للسلام والخلاص الّتي تتجسّد من خلال أفعالنا وعلاقاتنا. يسوع هو النور الذي يقودنا في هذه المسيرة، ويجب أن نكون مستعدين للإجابة على دعوته.
إن التحدي الذي يطرحه يسوع أمامنا يتجاوز حدود المعرفة اللفظية؛ إنه يدعونا إلى عيش الإيمان. كلّ منا مطالب بتقديم ذاته كصخرة في مجتمعه، مما يعني أن لدينا دورًا حاسمًا في بناء الكنيسة. كلما تعمقنا في علاقتنا مع الرب، زادت قوتنا في مواجهة التحديات اليومية، وسنصبح قادرين على أن نكون مصدر إلهام للآخرين.
من الأسئلة التي علينا أن نطرحها على ذواتنا:
- ما الذي ننتظره من الله في هذه الفترة؟
- هل نتطلّع إلى محبة جديدة، أو إلى تغيير في قلوبنا؟
التحدّي هو أن نتعلم كيف نكون أدوات الله في العالم، نحمل مفاتيح المعرفة والحب، لنفتح أبواب الخلاص.
يتطلب منا هذا المسار أن نتعمق في فهمنا للكنيسة ودورها فالكنيسة ليست مجرد مبنى أو طقس، بل هي مجتمع حي ينبض بمحبة المسيح. كل عضو فيها يُعتبر حجراً حياً، وكل واحد منا مدعو للمساهمة في بناء هذا الصرح الروحي. لا يمكننا أن نكون سلبيين، بل يجب علينا أن نكون نشطين في مشاركة محبة الله مع الآخرين.
قد يتبادر إلى الأذهان سؤال حول كيفية تحقيق هذا الإنجاز في حياتنا اليومية. الإجابة تكمن في التفاني الشخصي، والقدرة على اتخاذ خطوات فعلية تعكس إيماننا. عندما نواجه التحديات، لنحاول أن نرى فيها فرصًا للنمو الروحي. إن التجربة الشخصية مع الله تعزز قدرتنا على تجاوز الصعوبات وتقديم الأمل للآخرين.
إننا مطالبون، كأفراد وجماعات، بأن نكون متيقظين لنور الروح القدس الّذي يوجّهنا. في كل صباح، يمكننا أن نسأل أنفسنا:
- كيف يمكنني أن أكون أفضل اليوم؟
- كيف أستطيع أن أكون مصدر إلهام للآخرين؟
في عالم مليء بالضغوط والصعوبات، تصبح المحبة والرحمة أدواتنا الأساسية في التغيير.
لنختم تأمّلنا بالتأكيد أننا مدعوّون جميعًا لكي نكون رسلًا للسلام، حاملين قيم الحب والرحمة. علينا أن نؤمن بأن الله يعمل من خلالنا، وأن كلّ فعل صغير يمكن أن يكون له تأثير كبير. كلّما تقربنا من الله، كلما اقتربنا من الآخرين، وكلما زادت قدرتنا على تحقيق الخلاص في حياتنا.
فلنستقبل السنة الطقسية الجديدة بقلوب مفتوحة وأرواح متجددة، متعهدين بأن نكون صخورًا ثابتة، نبني على أسس المحبة، ونجعل من كل يوم فرصة لنشر نور المسيح في عالمنا.
Share via: