نصّ مش لكلّ الناس

You are currently viewing نصّ مش لكلّ الناس
مكرم غصوب –
لمّا كنّا صغار، كنّا نصنّع بالحيّ، نحنا الولاد “عربيّات رصاص” لنلعب، وعربيّة الرصاص عباره عن خشبه مربّعه، على طرفها الورانيّ ممسمره خشبه مطاوله ثابته، فيها دولابين رصاص، والدولاب رولمان سيّاره منزوع، ومن قدّام دولاب رصاص معلّق بخشبه متحركه منغيّر فيها الاتجاه…وكنّا نسوق عربية الرصاص بالنزله إذا ما لقينا حدا يدفشنا بالطرقات المستويه. وكان عندي بسينه صغيره، زياده عن جمال “براءة طفولتها”، مرسومة بريشة مبدع. وكانت تضلها حدّي كأنّها ما بدها تقطع لحظه بحياتها ما تعيشها معي…
ولما اتركها وحدها، قلت خليني لعبّها معي بعربية الرصاص، طلعنا على راس النزله، قعدت على العربيه وحطيتها بحضني وعليّت اجريي عن الأرض لتكرج فينا العربيه بشكل متسارع، بشكل حسيّت فيه الوقت أسرع من إنه اقدر سيطر عليه، نطّت البسينه قدام العربيّه وقدام الوقت ومعسها دولاب الرصاص! لحظه جمد فيها الوقت براسي وكلّ شي معه حتى حواسي، جمد بين ليشين… ليش ما كنت قادر شوف لقدام وما اغلط؟ ليش مش قادر ارجع بالزمن وصلح غلطي؟ لحظه بس كبرت واستعدتها، خلتني ادرك إنه ” الزمن نزيف ألوهة”…
شوي شوي رجعت اسمع انفاس البسينه الاخيره اللي عم تنزف دمّ ووقت، حملتها ورحت عند عمّي البيطري، قلتله “بدي ياها تعيش، رجعها متل ما كانت.” ضحك وقلّي “شو مفكرني المسيح، تركها تموت بسلام وتعا لأعطيك بسينه غيرها” بهاللحظة أدركت أهميّة العلاقه بالوجود وأهميّة الفراده فيها، وإنها أساس لكلّ شي…حملت البسينه وقعدت قدامها عاجز، عم عدّ أنفاسها الأخيره السريعه اللي كانت عم تبطئ الوقت جوّاتي، أنفاس بعدها لليوم ما خلصت، كأنها روحي كانت عم تطلع معها وبعد لليوم ما طلعت! دفنتها بكمشة تراب، وجيت عند إمّي قلتلها “خديني عالكنيسه، بدّي اعترف عند الخوري ، أنا قتلت بسينتي” أخدتني إمي بحضنها انا ومفحّش بالبكي، وصارت تواسيني، قالتلي ” إنت بعدك صغير لتخطي، بعد ما عملت أول قربانه” ما عملت اول قربانه، يعني بعد ما توحدت بالمسيح وما أدركت مسؤوليتي الوجوديّه…
بس أنا قتلت وحاسس بذنب كبير! قلتلها خديني عند الخوري…ورحنا عالكنيسه، تمسّكت بجبّة الخوري السودا، اللي شفت فيها بياض الرجا، وقلتله “أبونا قلّي إنّه بسينتي طلعت عالجنّه” ضحك متل الكلّ قبله، وقلّي “يا ابني البسينات ما بيطلعو عالجنّه، نحنا بس اللي خلّصنا المسيح منطلع.” للمرّه التانيّه بحياتي بيجمد الوقت براسي بين ليشين…ليش ما بدها تطلع كلّ الأرواح البريئه عالجنّه؟ وليش، إذا ما بدها تطلع عالجنّه، بدها تموت هيك وما بدها تنعطى فرصة الحياة الكامله؟ وقبل ما يجاوبني الخوري عن تساؤلي حول العداله، وقبل ما أعرف اللي قاله نيتشه عن المعايير الجماليّه للأخلاق، وكيف قتلنا لصرصور يعتبر بطوله وقتلنا لفراشه يعتبر جريمه، وقبل ما ادرك إني قتلت بعربية الرصاص ذاتها ألف نمله ما سألت عنها ولا حسيّت بذنب، وقبل ما أوقف عاجز قدام فكرة إنه حياة هالكره الأرضيّه كلها قايمه عالقتل، وقبل ما اضحك على فكرة إنه حللنا القتل وحرّمناه بحسب حاجاتنا واهوائنا، سألت حالي “كيف اساساً بدّي كون بجنّه ما فيها بسينات، ما فيها بسينتي اللي بحبها؟!”
“عدالة الله أكبر من فهمنا، يا ابني، بدك تسلّم لمشيئته؟”
لحظه، تركت فيها إيدي الجبّه السودا ، كأنّها كانت متمسكه بالوهم والرجا بنفس الوقت، كأنه كان موقفني عإجريي بهالحياة الوهم والرجا…لحظه حسيّت فيها إنّي بلا اجرين، رجع وقف فيها الوقت براسي بين ليشين بولدو ألف ليش وليش، ليش بدها تكون مشيئة الله القتل؟ وليش بدها تكون عدالة الله اكبر من إدراكنا طالما نحنا قادرين ندرك الظلم؟
إذا كان كل شي بهالحياة مشيئة الله؟ يعني نحنا مسيرين؟ يعني متل ما كتبت بالطارق “إذا كانت مشيئته، فمن الذي تآمر؟ ومن الّذي خان؟ ومن الّذي حكم؟ ومن الّذي نكر؟ ومن الّذي صَلَب؟ أو يحقّ لي السّؤال؟ أم سأُصلب على السؤال… بمشيئته؟”… معقول نحنا مسيرين بهالوجود؟ أو خيارنا اللي هو نتيجة قدرنا بيصنع قدرنا؟ متل ما كتبت بنشيد العدم…وإذا مش كل شي بمشيئة الله بهالوجود، بمشيئة مين؟ وين كليّة “ضابط الكل”؟ وإذا نحنا قادرين نحقق عدالة الإنسان ليش بدنا نتخلى عنها ونسلم بعدالة ما منقدر نستوعبها؟ ما فيها تكون عدالة الإنسان خطوه أولى بطريق عدالة الله؟ ألف ليش وليش خلّوني مع الوقت، بطلّ حارب الموت متل ما علموني وادرك انه مرحله متممه للحياة والتجدد، وصرت حارب القتل وادعي لقتل القتل لأنّه هو نقيض الحياة…وبعد ما مات بيي كنت نازل بالنزله مشي ومش على عربية الرصاص، وعارفين إجريي الجداد كتير منيح اتجاه البيت الجنه، اتذكرت قصة بسينتي والألف ليش وليش وكتبت:
تَموجُ بي المِرآة كلَّما استوطَنَ البَحرُ عَينيَّ…مَن لوَّنَ الحُزنَ في عينيَّ، عَلَّمَني أنَّ المعاني لا بدَّ أن تَبدأَ من حُزنٍ ما…”
بينَ سهولِ اسكتلندا وحُزنِ عينيَّ، طيورٌ مهاجِرة
وَجَعُ المَندولين جُرحٌ عَميقٌ في الوَتَر
ما زالَ أبي يَزرَعُ الصحراء
والريحُ لا تُفَرِّقُ بيني وبين الشَجَر…
مُخيفٌ ما يَدورُ في كلِّ هذه الرؤوس
يتصاعَدُ فتنهارُ السماء
في رأسي مِطرَقة ومُدُنُ أصنامٍ ومَرايا
خذّ يدي أيُّها الإله
هذه الارضُ ما عادت صالحة إلاَّ لفأسِكَ
اشطرْها وارمِ نِصفَيها بالنار
جَفِّفِ المُبَلَلَ منكَ بالدماء…
هذه الأرضُ البيضاويةُ
لا تَصلَحُ حتّى لركلةِ جزاء
حينَ أَصيرُ إلهاً
لن ألعبَ إلاّ بكرةٍ حقيقية!
هذا النَفَسُ الرتيبُ المُمِلُّ يضيقُ في صَدري
الأشجارُ تَتَنفَّسُ بلا رئَتين…
أصواتُ الباعةِ تُلاحقُني،
“حديدٌ حديد” “جنسٌ وأجساد” “بَطّيخ على السِكّين” “نَعيمٌ وجِنان”
صراخُ الباعةِ يؤرقُني،
“أسماكٌ طازجة” “كيفَ تكونُ سَعيداً؟” “يوغا” “صوفية” “حُرّية””صكوكُ غفران”
أصواتُ الباعةِ تُلاحقُني، حتّى المنادي على “الصمت”!…
باعةٌ هُنا وباعةٌ هُناك، ضجيجٌ لم أجِدْ فيهِ مَنّ يَبِيعُني دَواءً لهَلوسَتي السَمَعية…
أنظر من حولي، أرى الكلَّ على عَجَلة والعَجَلة تدورُ مكَانَها،
وأرى حاملَ العَظَمة تَلهثُ وراءَه جحافلُ من الكِلاب،
وأرى أوهاماً على شكلِ قِممٍ تَتسلقُها دَبدبةُ الأطفال،
وأرى المُبنَّجين والروبوتات…
وأرى الضَّجيجَ الذي صَمَّني،
الْجَميعُ يَركضُ للوصول ولَكن إلى أين أو متى أو من أو ماذا؟
في آخِر الضَّجيجِ
تَرَكتُ ظِلّي يَعبُرُ واتكأتُ على حائِطِ الغُبار
ليأكُلَني الصدى بِبُطء.
…وهناكَ حينَ عبرتُ، سألتُ عن أبي
قالوا لي، يَبحثُ عن أبيه!
لَن أركَبَ الحافلة َ
فقط سألوّحُ لها بمنديل
أتنشَقُ غُبارَها
وأمضي في مِقعدِ الانتظار!
أُفكِّر بكلِّ ما يَحدُث،
يُقاطِعُني نَعيقُ غُرابٍ في حَديقتي
يُجيبُهُ نَقيقُ ضِفدَعٍ يَتَشَمّسُ على شُرفتي،
أُفكِّر بكلِّ ما حَدَث…
كلُّ هذا وذاك لم يمنَعِ العَنكبوت من اصطيادِ نَحلة!
أصرخ:
إيلِ…إيلِ
إنّي لأخشى أن تكونَ عدالتُك كما الجنّةُ مجرّدَ تَمنًّ…
وحين صرختُ، أبرقتِ الدنيا وأُنزِلَ الصَليبُ عن الصَليب!

اترك تعليقاً